الفاصـلة القرآنية وعلاقتها بالوقف الصـوتي | |||||||||||||||||||||
مجلة کلية التربية (أسيوط) | |||||||||||||||||||||
Volume 41, Issue 7, July 2025, Pages 66-126 PDF (1.22 M) | |||||||||||||||||||||
Document Type: المقالة الأصلية | |||||||||||||||||||||
DOI: 10.21608/mfes.2025.454551 | |||||||||||||||||||||
Author | |||||||||||||||||||||
ريما عبد الرحمن صباح* | |||||||||||||||||||||
كلية الآداب جامعة قطر | |||||||||||||||||||||
Abstract | |||||||||||||||||||||
يهدف هذا البحث إلى دراسة الفاصلة القرآنية وعلاقتها بالوقف الصوتي، وذلك من خلال البحث في مفهوم الفاصلة القرآنية، وأنماطها المختلفة، وإضافة أقسام جديدة تسهم في توسيع فهم بنيتها ووظيفتها. كما يتناول البحث الوقف الصوتي بوصفه عنصرًا أساسيًا في التلاوة القرآنية، حيث يتم تحليل أقسامه، ووظيفته، وأثره في تحديد المعاني، إضافة إلى استكشاف علاقته الوثيقة بالفاصلة القرآنية. أمَّا في الجانب الأول من البحث، فقد تم التطرق إلى تعريف الفاصلة القرآنية، ودراسة أنماطها وفق تقسيمات متعددة، سواء من حيث حرف الروي، الوزن، القرينة، طول الفقرة، مقدارها من الآية، تكرارها، أو وظيفتها داخل النص القرآني. كما تم اقتراح أنماط جديدة يمكن أن تسهم في إثراء الدراسات القرآنية، وتقديم رؤية أكثر شمولية حول البناء الإيقاعي والدلالي للفاصلة. وأمَّا في الجانب الثاني، فقد تم التعمق في دراسة الوقف الصوتي، من خلال تحليل أقسامه المختلفة، ووظيفته في التلاوة، وأثره في إبراز المعاني القرآنية. وتم تسليط الضوء على العلاقة التكاملية بين الوقف والفاصلة القرآنية، حيث يؤثر كل منهما في الآخر، فالوقف يُحدّد بناءً على مواقع الفواصل، والفاصلة تكتسب قيمتها الإيقاعية والدلالية بناءً على مواضع الوقف. ولقد توصل البحث إلى أن الفاصلة القرآنية والوقف الصوتي يشكلان معًا نظامًا متكاملًا يعزز التناسق الصوتي والدلالي للنص القرآني، مما يبرز الإعجاز البلاغي والإيقاعي في القرآن الكريم، ويدعم فهمًا أعمق لأساليب التلاوة والتفسير. كما أن إضافة أنماط وأقسام جديدة للفاصلة والوقف تسهم في تطوير الدراسات القرآنية، وتفتح آفاقًا أوسع للبحث في هذا المجال. وتأمل الباحثة أن يُسهم هذا البحث في تسليط مزيد من الضوء على أهمية الفاصلة القرآنية والوقف الصوتي، ويدفع بالدراسات اللغوية والقرآنية نحو رؤى أعمق وأكثر شمولًا في فهم البناء الصوتي والدلالي للقرآن الكريم. | |||||||||||||||||||||
Keywords | |||||||||||||||||||||
الفاصلة القرآنية; أنماط الفاصلة القرآنية; الوقف; الوقف الصوتي | |||||||||||||||||||||
Full Text | |||||||||||||||||||||
مركزأ.د/ أحمد المنشاوى للنشر العلمى والتميز البحثى (مجلة كلية التربية) =======
الفاصـلة القرآنية وعلاقتها بالوقف الصـوتي
إعـــــــداد أ/ ريما عبدالرحمن اسعد صباح طالبة ماجستير كلية الآداب و العلوم جامعة قطر remaa4228@gmail.com
}المجلد الواحد والأربعون– العدد السابع – يوليو 2025م{ http://www.aun.edu.eg/faculty_education/arabic
المُلخَّص: يهدف هذا البحث إلى دراسة الفاصلة القرآنية وعلاقتها بالوقف الصوتي، وذلك من خلال البحث في مفهوم الفاصلة القرآنية، وأنماطها المختلفة، وإضافة أقسام جديدة تسهم في توسيع فهم بنيتها ووظيفتها. كما يتناول البحث الوقف الصوتي بوصفه عنصرًا أساسيًا في التلاوة القرآنية، حيث يتم تحليل أقسامه، ووظيفته، وأثره في تحديد المعاني، إضافة إلى استكشاف علاقته الوثيقة بالفاصلة القرآنية. أمَّا في الجانب الأول من البحث، فقد تم التطرق إلى تعريف الفاصلة القرآنية، ودراسة أنماطها وفق تقسيمات متعددة، سواء من حيث حرف الروي، الوزن، القرينة، طول الفقرة، مقدارها من الآية، تكرارها، أو وظيفتها داخل النص القرآني. كما تم اقتراح أنماط جديدة يمكن أن تسهم في إثراء الدراسات القرآنية، وتقديم رؤية أكثر شمولية حول البناء الإيقاعي والدلالي للفاصلة. وأمَّا في الجانب الثاني، فقد تم التعمق في دراسة الوقف الصوتي، من خلال تحليل أقسامه المختلفة، ووظيفته في التلاوة، وأثره في إبراز المعاني القرآنية. وتم تسليط الضوء على العلاقة التكاملية بين الوقف والفاصلة القرآنية، حيث يؤثر كل منهما في الآخر، فالوقف يُحدّد بناءً على مواقع الفواصل، والفاصلة تكتسب قيمتها الإيقاعية والدلالية بناءً على مواضع الوقف. ولقد توصل البحث إلى أن الفاصلة القرآنية والوقف الصوتي يشكلان معًا نظامًا متكاملًا يعزز التناسق الصوتي والدلالي للنص القرآني، مما يبرز الإعجاز البلاغي والإيقاعي في القرآن الكريم، ويدعم فهمًا أعمق لأساليب التلاوة والتفسير. كما أن إضافة أنماط وأقسام جديدة للفاصلة والوقف تسهم في تطوير الدراسات القرآنية، وتفتح آفاقًا أوسع للبحث في هذا المجال. وتأمل الباحثة أن يُسهم هذا البحث في تسليط مزيد من الضوء على أهمية الفاصلة القرآنية والوقف الصوتي، ويدفع بالدراسات اللغوية والقرآنية نحو رؤى أعمق وأكثر شمولًا في فهم البناء الصوتي والدلالي للقرآن الكريم. الكلمات المفتاحية :الفاصلة القرآنية – أنماط الفاصلة القرآنية – الوقف – الوقف الصوتي.
The Quranic comma and its relationship to the vocal pause Rima AbdelRahman A. Sabbah College of Arts, Qatar University remaa4228@gmail.com ABSTRACT: This research aims to study the Qur'anic comma and the phonetic endowment, by researching the concept of the Qur'anic comma, its different patterns, and adding new patterns and sections that contribute to expanding the understanding of its structure and function. The research also deals with the phonetic endowment as an essential element in the Qur'anic recitation, where its sections, function, and impact on determining meanings are analyzed, in addition to exploring its close relationship with the Qur'anic comma. In the first part of the research, the definition of the Qur'anic comma was addressed, and its patterns were studied according to multiple divisions, whether in terms of the letter of the narration, weight, presumption, paragraph length, its amount of verse, its repetition, or its function within the Qur'anic text. New styles and sections were also proposed that could contribute to enriching Qur'anic studies, and provide a more comprehensive view of the rhythmic and semantic structure of the comma. On the other hand, the study of the phonetic endowment has been in-depth by analyzing its various sections, its function in recitation, and its impact on highlighting the Qur'anic meanings. The complementary relationship between the endowment and the Qur'anic comma was highlighted, as they affect each other, as the endowment is determined based on the locations of the commas, and the comma acquires its rhythmic and semantic value based on the positions of the endowment. The research found that the Qur'anic comma and the phonetic endowment together form an integrated system that enhances the phonetic and semantic consistency of the Qur'anic text, highlighting the rhetorical and rhythmic miracles in the Holy Qur'an, and supporting a deeper understanding of the methods of recitation and interpretation. The addition of new styles and sections to the comma and waqf contributes to the development of Qur'anic studies and opens wider horizons for research in this field. The researcher hopes that this research will contribute to shedding more light on the importance of the Qur'anic comma and the phonetic endowment, and push linguistic and Quranic studies towards deeper and more comprehensive insights in understanding the phonetic and semantic structure of the Holy Qur'an. keywords: Quranic comma – Quranic comma patterns – waqf – phonetic waqf.
المقدّمة: يُعدّ علم الفاصلة القرآنية من الموضوعات البالغة الأهمية في الدراسات القرآنية واللغوية، لما له من دور في إبراز الإيقاع الصوتي، والتناسق البلاغي، والمعاني الدلالية للنص القرآني؛ فالفاصلة القرآنية ليست مجرد نهاية للآيات، وإنما هي عنصر بنائي يؤثر في التلاوة والتجويد، ويُسهم في تحديد مواضع الوقف والابتداء، مما يعزز فهم المعاني القرآنية. وقد اهتم العلماء المتقدمون والمتأخرون بتحديد مفهوم الفاصلة القرآنية وعلاقتها بالوقف الصوتي، فعرفوها بأنها المقطع الصوتي المتكرر في أواخر الآيات، والذي يقابل القافية في الشعر، والسجعة في النثر. ومن هذا المنطلق، تتجلى العلاقة الوثيقة بين الفاصلة القرآنية والوقف الصوتي، إذ يؤثر كل منهما في الآخر؛ فالوقف يؤثر في إدراك النغم القرآني وإيقاع التلاوة، بينما تُسهِم الفاصلة في تحديد مواضع الوقوف المناسبة، مما يحقق جمالية الأداء، وسلامة النطق، ودقة إيصال المعنى. وانطلاقًا من أمَّاتِ الكتبِ الباحثةِ في الفاصلة القرآنية وعدّها وقراءاتها مرورًا بمنْ جاءَ بعدَهم، قمنا بتسليط الضوءِ على أهميةِ دراسةِ الفاصلةِ القرآنية، ومدى إسهامِها في إبرازِ وجهٍ من وجوهِ إعجاز القرآنِ الكريم، فوجدنا هناك التعدّد والتنوّع في الفواصل القرآنية وأنماطها، وغير ذلك. إشكالات البحث وفرضياته: تكمن الإشكالية الأساسية للبحث في الإجابة عن السؤال التالي: ما علاقة الفاصلة القرآنية بالوقف الصوتي ؟ وتتم الإجابة عن هذه الإشكالية من خلال الإجابة عن الأسئلة الفرعية الآتية: 1) ما هي الفاصلة القرآنية؟ وما أنماطها؟ 2) ما هو الوقف؟ وما أشكاله في الفواصل القرآنية؟ إنّ الفرضية الأساسية هي: ثمَّة علاقة تربط الفاصلة القرآنية بالوقف الصوتيّ.
أهمية البحث وأهدافه: تكتسب هذه الدراسة أهميتها من طبيعة موضوعها المرتبط بكتاب الله العزيز، ومن تركيزها على أحد الجوانب الإعجازية فيه، وهو الفاصلة القرآنية. فهي تمثل صورة من صور التفكر والتدبر في آيات القرآن الكريم، وهو ما أمرنا الله تعالى به وحثّ عليه. ويهدف هذا البحث إلى استكشاف مفهوم الفاصلة القرآنية، وبيان أهميتها وعلاقتها بالوقف الصوتي من منظور لغوي ودلالي، مع تسليط الضوء على دورها في بناء الآيات وإيقاعها الصوتي، ومدى ارتباطها بأسس التفسير والتجويد، بما يسهم في تعميق الفهم لخصائص النص القرآني وأبعاده البلاغية. الدراسات السابقة:
يركِّز هذا البحث على الجوانب الصوتية في الفواصل القرآنية؛ لأن الفواصل هي صورة تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الأصوات، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا يلائم نوع الصوت، والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب، ويرى الباحث أنَّ أكثر ما تنتهي بالنون والميم. كما يدرس البحث الأصوات التي تنتهي بها الفواصل دراسة إحصائيّة أولاً من حيث الكمّ عبر جداول لتلك الأصوات الموجودة في الفواصل القرآنية، ثم تصنَّف حسب المخرج والصفات، ومعرفة مدى ارتباطها بمعاني الآيات، وما هي دالّة عليه، وإبراز التغييرات التي تطرأ عليها من الحذف والإبدال والتكرار. وهي دراسة انحصرت في دراسة الأصوات الرئيسة للفواصل.
إنّ الهدف الرئيس من هذه الدراسة هو إبراز الفاصلة القرآنية وأهميّتها بين الدلالة والإيقاع وملاءَمتها لسياق الكلام؛ فقدَّمت الباحثة تعريف الفاصلة القرآنية، وعلاقتها بالإيقاع والدلالة في القرآن الكريم، ولقد أبانت عن الدلالات التي تحمل الفاصلة القرآنية بعضها، وإن كان يحسبها المتعجل عديمة القيمة في مجالها الجمالي الصّوتي، إلَّا أنَّها تُعَدُّ خصيصة صوتية وإيقاعية بارزة التي يظهر فيها الالتحام بين الصوت والدلالة؛ فهذه الفاصلة تجسد التعبير البليغ والمعنى الجليل بإيقاعها الصوتي. و يدرك المتذوق للغة -من حيث دلالة المعنى ودلالة الإيقاع معًا- مكانها وموقعها وهدفها، ولها أيضًا قيمة جمالية صوتية ووظيفية مهمة بما تجمله من إيحاءات ومعانٍ يراعى فيها اللفظ والجرس والدلالة، وعليه توصَّلتْ د. داحو إلى أنَّ الفاصلة تُعدُّ ظاهرة صوتية تشكل لوحة جمالية تعطي النّص ميزة الإعجاز في الأداء من خلال تركيبها، كما أنَّها استطاعت إثراء السّياق وتقوية بنية القراءة القرآنية، بمساهمتها في اختيار الكلمات القرآنية؛ لإبراز جمال النص القرآني من منابعه اللّغوية، فتكسبنا القدرة على التذوق وتوصلنا إلى صورة مثالية مقنعة مدركة عظمة كتاب الله.
يناقش البحث تعريف الفاصلة، وأنواعها، وأنماطها، ودراسة علاقتها بالإعجاز البلاغي والصوتي، وکيف يُتوصلُ بها إلى التدبر والتأمل في آيات القرآن الکريم، كما ويوضِّح أنَّ هناك ثمة فرق بين الفاصلة القرآنية والسجع، وبيان ذلك من خلال النظر في أقوال العلماء، مع بيان أثر الفواصل القرآنية في إتمام معنى الآية والوصول بالقارئ للقرآن الکريم إلى التدبر والتأمل في آياته، والوصول إلى معاني الإعجاز فيه، والتأثير الصوتي لآياته الکريمة على السامع لها، كما يوضح التأثير الإعجازي والبلاغي لأنواع وأنماط الفواصل.
لقد آكدت الباحثة بأنَّ غاية هذه الدراسة تقديم قراءة لغوية جادّة يتم فيها توثيق العلاقة بين المتنافرات –ظاهريًّا- عبر البحث عن آليات الربط التي يمكن تحقّقها عبر اتّساق وانسجام نصي؛ فجعلت تبحث في عدة عناصر: الفاصلة القرآنية نظريًّا التي تُعدُّ أحد أبرز أشكال الأداء الصوتي التي ميزت الخطاب القرآني، وإسهامها في التأثير على المتلقي، وتقديم نماذج تطبيقية على ذلك، ثم البحث في عنصر البنية الإيقاعية للفاصلة القرآنية تمهيدًا للكشف عن مختلف أشكال الأداء الصوتي التي ميزت الخطاب القرآني؛ وقد أولت عناية واهتمامًا لتجليات الإيقاع القرآني بكل أنواعه: اللفظي، والتقابلي، والمزدوج، والصرفي، ثمَّ البحث في عنصر البنية النبرية وتحليلها فونولوجيًّا في الآيات القرآنية، موردة أهم تجلياتها وهي: النبر القرآني، وأنواعه، ووظائفه في السور القرآنية. ثمَّ عرض الدراسة التطبيقية؛ لمحاولة رصد مواقع نَّبر الفواصل القرآنية، مجيبةً عن أسئلة رئيسة تدور حول: مركز المقاطع الصوتية في الفواصل القرآنية. وما دلالات هذا التمركز؟ وإلى أي مدى يتم من خلاله توسيع المعنى أو تضييقه؟ ثم تجيب عن هذه الإشكالية عبر تتبع حركة النَّبر في مقاطع الفواصل القرآنية، متخذة نموذج السور القصّار ثم نموذج السور الطّوال.
يهدف الباحث في هذه الدراسة إلى الوقوف على التغيّرات والتشكيلات الصوتية التي تطرأ على الفواصل نتيجة للوقف، وإبراز أثر علوم الترتيل والقراءات في الدرس الصوتيّ، وكيفية الاستفادة من علم الأصوات الحديث في هذا الجانب؛ فقد حاول الباحث كشف مسألة التغير الصوتي للفواصل القرآنية عند الوقف عليها، وتجلية خفيّها؛ حيث درس أشكال هذه الظواهر الصوتية كالسكون والقلقلة والروم والإشمام. كما درس ظاهرة النقل، وذلك بنقل حركة الهمز إلى الساكن قبله عند الوقف، ومنها الإبدال والإلحاق، وكذلك أوضح الباحث أنَّ للوقف أثرًا واضحًا في النظام المقطعي للفواصل، يظهر في المقطع الرباعي في الفواصل الموقوف عليها باجتماع الساكنين، وقد أثبت أنَّ بعض الفواصل تتغير من خماسية المقاطع إلى ثلاثية، ومن رباعية إلى ثنائية، ومن فواصل ذات المقطعين إلى مقطع واحد؛ ولذلك قام الباحث بدراسة التغيرات الصوتية التي يجلبها الوقف على الفواصل مزاوجًا بين المصادر القديمة والدراسات الصوتية الحديثة، منطلقًا من إشكالية البحث في أبرز التغيرات الصوتية التي تأخذها الفاصلة القرآنية عند الوقف عليها، متتبِّعًا أثر ذلك في نظامها المقطعي.
تهدف هذه الدراسة عن سر جمال الإيقاع في الفاصلة القرآنية وكشفه کشفًا علميًا مبرّرًا السبب الذي جعلها تفوق نظيرتيها في النثر والشعر، حيث أنَّ جمال الإيقاع والتناسق الموسيقي أمور ثابتة لا محالة، سواء أثبتتها هذه الدراسة أو غيرها أم عجزت عن إثباتها، غير أنَّ الوقوف على مصدر هذه الروعة يبقى من خلال تحديد أنماط الفاصلة وصورها وأنساق تتابعها، على غرار ما قام به العروضيون. وقد توصَّل الباحث إلى عدة نتائج متعلقة بقيمة الفاصلة القرآنية صوتيًّا ودلاليًّا، وأساس مراعاتها في القرآن الكريم، وأنَّ الأصل في تحديد موضع الفاصلة القرآنية هو أمر توقيفيّ، ونتائج أخرى تتعلّق بالتناسق الموسيقيّ والإيقاعيّ في النظم القرآني، والفرق بينه وبين القافية الشعرية ومعايير كلٍّ منهما.
تأتي هذه الدراسة البحثية فيما أطلق عليه الباحث هذا المصطلح بـ (الفاصلة المنفردة)، حيث وجد الكثير من الباحثين لم يُعنَوا بها ودلالاتها، وخاصة من كان منهم متعرضا للفواصل القرآنية، اللهم بعض الإشارات الدلالية لبعض الفواصل المنفردة؛ لذلك انصرف الباحث إلى بيان مفهوم الفاصلة المنفردة، وأنواع ذلك الانفراد؛ من خلال رصد تغيُّر النَّمط المقطعيّ للفواصل أو اتحاد النمط المقطعي مع تغير التمثيل الصوتي للمنطوق، واقفًا على الدلالات الكامنة وراء ذلك التحول المفاجئ في إيقاع الفواصل، أو البحث في إيحاءاته الموسيقية على أقل تقدير؛ و(الإيحاء) رغم أنَّه ضرب من (الدلالة)، لكنه أخص منها. وعندما كان للسياق أثر كبير في تحديد الدلالة، أخذ الباحث هناك أدلة بالسياق المقالي للآيات السابقة والآيات اللاحقة، وأيضًا السياق المقامي المتمثل في أسباب النزول وأحوال المخاطبين ونحو ذلك.
تهدف هذه الدراسة عن البحث في ظاهرة الفصل والوصل عند علماء القراءات القرآنية، وعلماء النحو، مـن رؤية صوتية في علـم الأصـوات المعاصـر، للنظر إلى الأحكام التي يصدرونها على الإجـراءات الصوتية، والتـي تؤثر عند وصــل أو فصل السلسلة الكلامية بعضها عن بعض، والحكـم علـى مدى تطابقها مع ما توصل إليه علم الأصوات في العصر الحديث، ومعرفة المسوغات الصوتية لإصدار تلك الأحكام. تعددت مصادر البحث في كتب علم القراءة، وكتب الوقف والابتداء، وكتب النحو الصرف عـنـد القـدماء، وفي نتائج الدراسات الصوتية المعاصرة من كتب، وأبحاث، ودراسات، ولأجل هذه الغاية اعتمدت الدراسة على وسائل اختبارية أساسية هي: المقطـع الـصوتي ومــا يحدث له من تغيرات في حالتي الفصل والوصل، فقد ثبت أنه العنصر الذي يخضع للتغير بحذف جزء منه أو إضافة جزء إليه، أو نطقه على وفق قياسه. الـصوائت بوصـفها خاضـعة للتغيـرات بإطالتها أو تقصيرها يشكل هيئة المفصل والصوامت؛ إذ تتعرض للتغيرات في نطقها بحسب ما يلازمها في السلسلة الكلامية مـن صوامت أخرى، وذلك بتفخيمها أو ترقيقها أو إدغامها أو نطقها في صورة ثالثة أو إمالتها. وقد انعكست تلك العوامل على الرسم القرآني ما جعل البحث يتوقف عنده، ويفسر بعض مشاكله من منطلقات صوتية. وعند دراسـة تلك الإيقاعات الصوتية (السجع) لفواصل القرآن، استطاع البحث أن يؤكد حجج منكـري وجـود السجع في القرآن الكريم، مرجحة الذي وظف الإيقاعـات الصوتية في بنية الفاصلة، بتوالي مقاطع صوتية متماثلة بانتظام في الفاصلة، واتخاذ توظيفه لموسيقى الفواصل بعدة أشكال، مثل: تسكين الفواصل، وإطالة أصوات المد، كذلك المزاوجة بين الأصوات المتقاربة، والإبدال بين الصيغ الصرفية، والتقديم والتأخير.
ينظر الكاتب للقرآن الكريم على أنه كتاب يشمل كل جوانب الحياة، ويحاول من خلال بحثه الإجابة عن سؤال هو: كيف يحقق القرآن الكريم ذلك؟، فيرى أن الأوائل عرفوا سلطان القرآن الكريم عليهم؛ فآمنوا به، وأسموه بالإعجاز. وقد استلهموه أسس حياتهم، واتخذوه كذلك مناط آدابهم وفنونهم، فكانت كتب العلوم كلها الفقه وعلوم الكلام، كما كانت كتب إعجاز القرآن والنقد الأدبي والبلاغة. أما المحدثون فعرفوا ما أسموه بـ(التفسير البياني للقرآن)، كما عرفوا أهمية الصلة المحكمة بالقرآن الكريم. يرى المؤلف أن ما قدمه القدماء والمحدثون من الجهود، ينقصه أبواب كثيرة لم تطرق، ومغاليق لم تفتح، ويرى أن سراً من أسراره هو تجدد عطائه، وأن فوائده لا تخلق مع الأيام. ويرى أيضًا أنَّ الطابع الغالب على النقد الأدبي العربي القديم الاستغراق في الجزئيات (بيت الشعر: القافية – الآية القرآنية: الفاصلة)، وكاد بعض دارسي القرآن أن يخرقوا ذلك الإجماع مثل الإمام الباقلاني. ولما جاء العصر الحديث، واكتشف النقاد (وحدة النص الأدبي)، ونضجت وتنوعت الفنون الأدبية، تذكر الدارسون ما في القرآن الكريم من (وحدة في السورة) ومن (فن قصصي) و(مشاهد قيامة) و(تصور فني). وحين أصبح الجمال علمًا من العلوم الإنسانية، وركنًا من أركان النقد الأدبي وجزءًا من تصور الإنسان للكون والحياة. بات من الضروري – والبديهي في آن واحد – استنباط (علم الجمال الإسلامي) من مصادره الإسلامية، وأولها وأهمها (القرآن الكريم) المعين الذي لا ينضب، سواءً في أسلوبه التعبيري أم في مجال تصوره للإنسان والكون والحياة. التعليق على الدراسات السابقة: لا شك أنَّ الدراسات السابقة قد أضافت الكثير من البيان والإيضاح في الخلفيّة العلمية والنظرية لبيان مفهوم الفاصلة القرآنية وأنواعها ودلالاتها، موضِّحةً الفرق بينها وبين نظيراتها ومفاهيم أخرى في الشعر والنثر الأدبي كالقافية والسجع والإيقاع والنبر وغيرها، رابطةً إيَّاها بعلومٍ أخرى كعلوم الصّواتة، والعدّ، والقراءات، والتجويد والترتيل، والبلاغة...، بيدَ أنَّ سعينا هو إحداث أثر واضحٍ وفعَّال، والانطلاق من حيث توقَّفوا، وفتح بوَّابة علمية جديدة؛ وذلك بإضافة بعض ممَّا نعتقد أنَّنا سنتوصَّلُ إليه في بحثنا هذا، من هذه الإضافات: لوحظ أنَّ جميع الدراسات التي قد وجدناها تتصل بموضوع بحثنا بطريقة أو بأخرى؛ إلَّا أنَّها اتخذت منحى آخر غير الذي نبحث فيه؛ فعلى سبيل المثال: إنْ بحثتْ إحداها في الفاصلة المنفردة، فنحن نبحث في غيرها لنكشف أسباب وقفها الصوتي. ركَّزت معظم الدراسات السابقة على الجانب النظري للفاصلة القرآنية وتعريفها والفرق بينها وبين السجع والقافية والإيقاع والنبر، بعكس ما نخطِّطُ له في هذه الدراسة التي سيكون فيها التركيز على عنصر مختلف، وهو: ارتضاء مفهوم للفاصلة القرآنية يتوافق مع طبيعة دراستنا، معرِّجين على رؤية المتقدمين والمتأخرين من العلماء لنصل إلى رأي علمي يُرتضى في ذلك. أولًا: الفاصلة القرآنية طرقها وأنماطها. الفاصلة القرآنية علمٌ إسلاميٌّ عربيٌّ قديمٌ، نشأ منذُ نيفٍ ومئتينِ وألفِ سنةٍ تقريبًا؛ أي منذُ ظهورِ العلوم العربية والإسلامية؛ وفي دراسةٍ للحسناويّ ( الحسناوى ،2000،ص33-42) عن الفاصلة تقصَّى وأحصى -عبرَ خَطٍّ زمنيٍّ- الأوائلَ في هذا العلم تسميةً واصطلاحًا، واستقرارًا لدلالتها، واختصاصًا بأواخر الآيات؛ ومروره بثلاث مراحل. الأولى: كان الخليلُ الفراهيدي (ت173هــ) أوّلَ منْ استعملَ لفظَ الفاصلة القرآنية، وتَبِعَهُ تلميذُهُ سيبويه (ت 179هـ) باصطلاح الفاصلة القرآنية لنهايةِ المقاطع القرآنية. الثانية: في زمن الفرَّاء(ت207 هـ) والجاحظ (ت 255هـ) استقرَّ مصطلحُ الفاصلة في دلالته على آخر الآية. الثالثة: كان أبو الحسن الأشعري (ت324هـ) أوَّلَ منْ قالَ بنظام الفاصلة القرآنية وقَصَرَها على نظم القرآن، وابتعدَ بها عن قافيةِ الشعر وسجع النثر، وتبعهُ الرُّمَّاني (ت384هـ)، والقاضي أبو بكرٍ الباقلَّانيّ (ت403هـ) ليجعلوا الفاصلة مختصَّةً بأواخر الآيات القرآنية (الشرقاوى،د.ت ، ص4) مفهوم الفاصلة القرآنية. يختلف مفهوم الفاصلة القرآنية من جانبٍ لآخرَ- حسبما صنّفَهُ العلماءُ المتقدمون والمتأخرون؛ فنرى الجانبَين المعجميَّ والاصطلاحيّ (كالأدائيّ والصوتيّ والدلاليّ والتركيبيّ)، وقد يتداخلُ تحديدُ مفهوم الفاصلة في أكثر من جانبٍ، وسنستعرضُ المفهومَ وحدَّه تبعًا للجانب الذي ينتمي إليه.. فمن الجانب المعجميّ وردتْ الفاصلةُ في مادة (ف. ص. ل)،وقد دارت في فلكٍ واحدٍ ذي ثلاثِ دلالاتٍ تتشابكُ وتقتربُ -كما أحصاها الباحثان (الشرقاوي و د.شيدو،ص4)- من أمَّات المعاجم ( ابن فارس،د.ت، ص505؛ابن منظور،د.ت،ج38،ص342؛ابن دريد،د.ت،ج2،ص891،الزبيدى،ج30،ص163، الفيروز،ص1042) ، وهي: 1- التمييز والإبانة بين الأشياء، وهو المعنى العام الذي تتفرَّعُ منه باقي المعاني. 2- الحاجز والمانع، أي الفصل بين الأشياءِ مادّيةً كانت أو معنويَّةً، وهو قيدٌ للأصل بالسبب المؤدي للتمييز والإبانة بين الأشياء. 3- القضاء بين الحق والباطل، وهذا نقلٌ من الماديّ إلى المعنويّ؛ فبينما اعتمد التمييزُ بين الأشياء على الحواسّ المادية، فإنَّ التمييزَ بين الحقِّ والباطلِ يستندُ إلى الأشياء المعنوية (الشرقاوى ،ص2). فإذا أردنا أنْ نجمعَ تلك الدلالاتِ في عبارةٍ واحدة، سنجدُ أنَّ مادةَ الفاصلة معجميًّا تعني: التمييز والفصل بين الأشياء بقصْد الإيضاحِ والتفرقةِ بينَ الحق والباطل. وأمَّا معنى كلمة فاصلة، فقد وردت في ذات المعاجم السالفة الذكر بأنَّها:((الخرزة الفاصلة بين الخرزتين من اللآلئ والجواهر والذهب)) (ابن فارس،د.ت،ص505؛ابن منظور،د.ت،ج38،ص342؛ابن دريد،د.ت،ج2،ص891،الزبيدى،ج30،ص163، الفيروز،ص1042). وهكذا نرى بأنَّها دائرةٌ في نفس دلالات الفلك لمادة (ف.ص.ل)، ولعلَّ التعليق اللطيف الذي أضافه الباحثان (الشرقاوي و د. شيدو) يبينُّ لنا قوَّةَ الصلة والترابط المعجميّ والمصطلحي للفاصلة القرآنية بقولهما: ((ومعنى الفاصلة بين الخرزتين استعير لاحقًا لفواصل الآيات في جمالها وإعجازها، للتعبير عن أغلى ما لديه معنويًّا، وهو التنزيل الكريم، كما رأينا استئناسَ القرآن لهذه الكلمة باستخدامها وصفًا للآيات التي أُنزلت كما في قوله تعالى: ﴿كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾[فصلت: 3]، و﴿ولقدْ جئناهم بكِتابٍ فصَّلْناهُ على علم﴾[الأعراف: 52]، فهذا له معنيان: أحدهما تفصيل آياته بالفواصل، والمعنى الثاني في فصلناه بيـَّنَّاه، وقوله عز وجل﴿آياتٍ مُفَصَّلاتٍ﴾[الأعراف: 133] أي بين كل آيتين مهلةٌ، وقيل مفصّلات مبيّنات)) (الشرقاوى ،ص3). وأمَّا من الجانب اللغويّ (الأدائي)فقد أتى بهذا الجانبِ الحسناويُّ مسمِّيًا إيَّاه (الجانب اللغوي)( الحسناوى،ص29، الشرقاوى ،ص3) ، بينما الشرقاوي و د. شيدو أسمَيَاهُ بــــــــــ(الجانب الأدائي) (الشرقاوى ،ص3)؛ وقد عنَوا جميعًا بهذا الجانب موقعَ الكلمةِ في جملة اللغة العربية؛ مستندينَ في ذلك إلى ما انفرد به الإمامُ أبو عمرو الدَّانيّ(ت444هـ) من تعريف الفاصلة بقوله:((كلمة آخر الجملة)) (الزركشى،ص50) ؛ فالآية إذًا -تبعًا لتعريفه- قد يكونُ فيها أكثرُ من فاصلة؛ وذلك لتعدُّدِ الجمل في الآية الواحدة، وتابع يقول:((الكلام التام المنفصل مما بعده، والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغيرها، وكل رأس آية فاصلة وليس كل فاصلة رأس آية)) (الحسناوى،ص50) ، ولقد أخذ الحسناويّ من تعريفه هذا نمطًا جديدًا للفاصلة كما سيردُ ذكره لاحقًا. ومن الجانب الصوتيّ.. عرَّفَ غيرُ واحدٍ من العلماءِ المتقدمينَ الفاصلةَ القرآنية صوتيًّا؛ فالرُّمانيّ (ت384هـ) عرَّفها تعريفًا قائمًا على ثلاثة نواحٍ: تركيبيّة وصوتيّة ودلاليّة؛ قائلًا: ((الفواصل حروف متشابكة(ياسوف، أحمد، ص 310، ومحمد، بدر عبد العال حسين، ص6، وداحو، آسية، ص2، والجيوسي، ص 185) (تركيبيّ) في المقاطع(صوتيّ)، توجب حسن إفهام المعاني(دلاليّ))) (الرُّمانيّ ،ص97 ) . وأمَّا الباقلانيّ (ت403هـ) فقد عرَّفها بقوله: ((حروف متشاكلة في المقاطع(صوتيّ)، يقعُ بها إفهام المعاني(دلاليّ))) ( الباقلاني ،ص270) وقد نلمحُ فرقًا بين المصطلحين "متشابكة" و"متشاكلة" في تعريف الرماني والباقلاني للفاصلة القرآنية؛ لما سيكون من أهمية دلالتهما في الفصلين القادمين عند بيان أثر الوقف والوصل على فواصل الآي. فالتشابك في اللغة يدل على التداخل والتماسك والترابط؛ قالت العرب: (( شبكت أصابعي بعضها في بعض؛ فاشتبكت)) (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ) ، و((فكأنَّ الشاعر شبك بعض الكلام ببعض)). فاستخدام الرماني لهذا المصطلح يوضِّح أن الفواصل القرآنية متداخلة ومترابطة؛ بحيث يُكمل بعضها بعضًا، فهي مترابطة في المعاني لا متفرقة، بل يتم بناؤها وفق نمط متسلسل ومترابط، وهذا يُؤكد قوة الترابط الداخلي للفواصل القرآنية. وأمَّا التشاكل فهو التماثل والتشابه في الهيئة والصورة؛ والشكل هو الشبه والمثل، يقال:(( وهذا دخل في شكل هذا، ثم يُحملُ على ذلك، فيقال: شكلتُ الدّابة بشِكالهِ، وذلك أنَّه يَجمعُ بين إحدى قوائمه وشِكْلٍ لها)) (معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ) . فاختيار الباقلاني لهذا المصطلح، يُظهر لنا أنَّ الفواصل تتشابه في النهايات لتكون على نمط صوتي متماثل؛ فيتحقق الانسجام والإيقاع والتناسق فيها عند تماثل أصواتها وتكرارها، مما يُضفي حسن إيقاعها على النص القرآني، ويعزز الجرس الموسيقي للآيات. وهكذا نلحظ كلا المصطلحين يبرز جانبًا مهمًا من الفاصلة القرآنية؛ فبينما يركّز الرماني على البنية الداخلية للفواصل، وكيف ترتبط وتدعم بعضها البعض؛ لتحقيق وحدة لغوية متماسكة، يركّز الباقلاني على التناسق الصوتي والتماثل في المقاطع، مما يُبرز دور الفاصلة في تعزيز الإيقاع والجمال الصوتي للنص القرآني. وهذا يصل بنا إلى دعم وتأييد إشكالية د.حنّون في إثباته لوظيفة الوقف – كما سيأتي لاحقًا-.
وأمَّا مصطلح المقاطع، فقد أثبت الجيلالي بأنَّ المقاطع عند علماء العرب قديمًا هي:((تحديد الوحدات الصوتيَّة في التركيب، مرتكزين فيها على الحرف والحركة)) (الجيلالي، ص 23) ، ووردَ ذكْرُ الحرف والحركة في تعريف الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت173هــ) للقافية بقوله: ((هيَ مجموعُ آخرِ ساكنيْنِ في البيت وما بينهما من متحركات - إن وجد - والمتحرك الذي قبل الساكن الأول)) (الفراهيدي ،ض8) ووافق الزركشيّ (ت794هـ) سابقَيْه في تعريف الفاصلة بقوله: ((كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع)) (الزركشي، ج 1 ،ص 50 )،ويتَّفِقُ معه عبد الفتَّاح القاضي في تعريفه- وجمعٌ من العلماء المتأخرين كالدكتور المرسي والحسناويّ وغيرهما- بيد أنَّ الزَّركشيَّ يضيف: ((وهي مرادفة لرأس الآية)) (القاضي، ص 24 ) ، ونلمح في تعريفهما أيضًا قيامَهُ على عدّة جوانبَ منها معجمية وصوتيّة ومصطلحية: معجمية؛ من حيث اختصاص الفاصلة بآخر كلمة في الآية، وصوتيّة لوصف الفاصلة بالموسيقا التي بها من خلال تماثلها بقافية الشعر وقرينة السجع، ومصطلحية باختصاص الفاصلة برأس الآية. ومن العلماء المتأخرين -وهم كُثُر- نرى سيِّد قطب - في ثنايا تفسيره للآي - يركِّزُ في تعريفه الفاصلة على الجانب الصوتيّ فيقول: ((إنَّ الفواصل في القرآن غيرها في الشعر، فهي ليست حرفًا مُتَّحِدًا، ولكنَّها إيقاعٌ متشابه- مثل (بصير. حكيم. مبين...))) (سيد قطب، ، مج1، ج 4 ص 547 ) ، ويشاركه الرافعيّ التعريف مضيفًا عليه: ((هي صورٌ تامّة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقا، متفقةً مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا ملائمًا نوع الصوت والوجه، وهي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وصوت إعجاز القرآن المخاطبُ النفوسَ - الفاهمة وغيرها- مؤثِّرًا فيها جميعها)) (الرافعي ،ص136) . ويوافقهما محمد عبد المتجلّي بتعريفه الصوتيّ للفاصلة: ((كلمات تتماثل في أواخر حروفها، أو تتقارب صيغ النطق بها، وهي عنصر أساس من عناصر اللغة الإيقاعية، ويمتاز القرآن الكريم بحسن الإيقاع، فتأتي الفاصلة في ختام الآيات حاملة تمام المعنى، وتمام التوافق الصوتي في آن واحد)) (عبد المتجلي ،ص8) كما ويُعَرِّفُ أحمد أحمد بدوي الفاصلة بقوله: ((تلك الكلمة التي نختم بها الآية من القرآن)) ( بدوى، ص64) ؛ ثمَّ يشرح تعريفه موافقًا من سبقهُ: ((لأنَّ بالفاصلة يتمّ بيان المعنى ويزداد وضوحه جلاءً وقوّةً، فمكانة الفاصلة من الآية مكانةُ القافية من البيت، ويتمُّ بها النغم الموسيقي للآية))( بدوى، ص64). وهكذا يتَّضحُ تناول المقصود من تعريفه الجانبين الدلاليّ والصوتيّ. أمَّا الحسناويّ، فقد كان تعريفه للفاصلة صريحًا واضحًا بجانبه الصوتيّ الدِّلاليّ؛ إذ يقول: ((الفاصلة كلمة آخر الآية كقافية الشعر، وسجعة النثر)) ؛ ثمَّ يُفصلُّ تعريفه الصوتيّ ويربطه بالجانب العروضيّ الموسيقيّ فيقول: ((هي توافق أواخر الآي في حروف الرويّ، أو في الوزن، مما يقتضيه المعنى وتستريح إليه النفوس)) (الحسناوى ،ص29) ، وهذا ما أتى به الدكتور تمام حسّان بوصفه الفاصلة وجمالها صوتًا قائلًا: ((الفاصلة قيمة صوتيَّة جماليَّة ترتبط أشدّ الارتباط بموسيقى النص القرآني)) (حسان ،ص202) وهكذا نرى غالبية العلماء المتأخرين متفقين مع منْ سبقهم - بإضافةٍ أو توسّعٍ في الشرح – في تعريف الفاصلة صوتيًّا مؤكِّدين أنَّ سحرَ الفاصلة بصوتها وجمال إيقاعها العروضيّ الموسيقيّ (أبو زيد ، ص 350، الحسناويّ، ص 26-30، البع، ص 3) وقد يكون جانب الموسيقا اللفظية متفرِّعًا من الجانب الصوتيّ؛ حيث أثبتَ معجم الدوحة التاريخيّ تعريف الفاصلة -موسيقيًّا- في القرن الرابع الهجريّ (325هـ) بقوله: ((الفَارِقُ في حِدَّةِ الصوتِ بين نغمتينِ)) (حسان ،ص202) ؛ وهذا ما نفهمه من تعريف د. مصطفى النحَّاس للفاصلة الصوتية: ((تلك الوقفات أو الاستراحات أو السكتات التي تقع في الكلام المنطوق، لا لضيق النفس، وإنَّما لإفادة معنى وظيفيّ معيّن، صوتي أو صرفي أو نحويّ، أو دلاليّ.)) ( النحاس، ص124). وتبعه د. نعيم يافي بالمراد بالفاصلة القرآنية- مشيرًا إلى أهميتها بكونها أهم دور في قواعد التشكل الإيقاعي للقرآن- بأحد المعاني الثلاثة ذات المصطلح الشعريّ الموسيقي الصوتيّ، وهي: ((حرف الروي الذي تنتهي به الآية ويشبه أو لا يشبه قرينة سجع الكهان وروي قافية الشعراء. أو هي المقطع الذي تنتهي إليه الآية، مقتربًا بهذه الدلالة من القافية بالتحديد الذي وضعه الخليل واقترحه للمصطلح، أو هي الجزء الأخير الذي تذيل به الآية، ويكون أفضل نهاية مناسبة متمكنة لها)) (يافى ،ص146) وقد أوضح يافي هذا جليًّا في تحديده للجوانب الموسيقية الثلاثة للفاصلة بقوله: للفاصلة ثلاثة جوانب موسيقية: الإيقاعي؛ فالإيقاع ليس مجرد ظاهرة تقوم على التكرار المنتظم، بل يلعب فيه الزمن المتساوي دورًا هامًّا(وهو معنى آثرناه للوزن، بل هو أقرب إلى عدم الانتظام والتنوع في انتظام الحركة بشكليها التماثلي والتجاوبي، ومن شأن الفاصلة أن تضبط هذه الحركة، أو تجعل لها قفلة أو نهاية من نوع ما. والتناغمي – ليس النغمي-؛ لأن لكل سورة لحنًا، هو عبارة عن تتابع أنغام مختلفة الدرجة ومتناسقتها في الوقت ذاته. والتآلفي؛ وهو يقترب من التناغمي ويتداخل معه؛ ذلك أنَّ في كلّ سورة نغمة أساسية ونغمات ثانوية، والعلاقات بينهما هي ما نطلق عليه اسم التآلف، وهي العلاقة نفسها بين النغمة الواحدة والنغمات التي تليها في اللحن، فكان التآلف والتناغم مصطلحان متداخلان أو مظهران لأمرٍ واحد؛ فإذا وجد متزامنًا سمي تآلفًا، وإذا وجد متتابعًا سمي تناغمًا) (يافى ،ص146) كما أشار أيضًا د. كمال بشر إلى ذات المصطلح (الفواصل الصوتية) وعرَّفها بقوله: ((الفواصل الصوتية مصطلح نطلقه – نحن - على مجموعة من الظواهر الصوتية التي تشكل ظواهر أخرى – كالنبر والتنغيم – تلوينًا موسيقيًّا خاصًّا بالمنطوق، يحدِّدُ طبيعة التركيب وماهيته ودلالته. هذه الفواصل هي: الوقفة stop، والسكتة pause، والاستراحة أو أخذ النفس)) ( بشر ، ص553 ) . ثمَّ يشيرُ إشارةً هامًّة إلى أنَّ صحة أداء هذه الفواصل الصوتيَّة وتجويدها هو ما يوصلنا إلى دّقّة التحليل النحويّ والدلاليّ من الجانب التركيبيَّ ( بشر ، ص554 ) وهكذا نلحظُ شدة ارتباط مفهوم وتعريف الفاصلة الصوتية بالفاصلة القرآنية؛ حيثُ بدَا وكأنَّ الفارق في حدّة الصوت هو الفارق في المعنى والدلالة التي قصدها القرآن الكريم في رؤوس آياته، أمَا ترى اشتراكَ موسيقا القرآن بموسيقا الشعر في الأوزان والقوافي، بيدَ أنَّ القرآنَ يتميَّزُ بترتيله كما يتميَّزُ الشعرُ بإنشاده. وأمَّا من الجانب التركيبيّ نجد تعريفات هذا الجانب متداخلةً مع جوانبَ أخرى؛ فإضافةً إلى ما تمَّ ذكره سالفًا لبعض العلماء المتقدمين نرى من جملة العلماء المتأخرين الشيخ منَّاع القطان حيث قال: ((ونعني بالفاصلة الكلام المنفصل عما بعده، وقد يكون رأس آية وقد لا يكون، وتقع الفاصلة عند نهاية المقطع الخطابي، وسميت بذلك لأنَّ الكلام ينفصل عندها)) (القطان ، ج1،ص 153) ، وهنا نلحظُ في تعريف القطان للفاصلة الجانب التركيبي بوضوح؛ حيث عرَّفَها بأنَّها كلام منفصلٌ عمَّا بعده – دون تحديد نوع هذا الكلام أحرف هو أمْ اسم...- كما حدَّدَ موقعها في نهاية المقطع الخطابي، وذكرَ أيضًا سببَ تسميتها وهو انفصال الكلام عندها. في ختام القول، نلحظُ اتفاقَ غالبيةِ العلماء في تحديد مفهوم الفاصلة القرآنية وتعريفها - وإن تعددت الإضافات من جوانب أخرى لها-، وانتصارَ الجانب الصوتيّ لحدّها كما ذكرنا آنفًا؛ لذلك أراني أنساقُ في تعريفها لما سبقني به العلماءُ صوتيًّا ودلاليًّا، فأقول: الفاصلةُ القرآنية مقطعٌ صوتيٌ(كلمة أو بعض كلمة) متناغمٌ واقِعٌ في أواخر رؤوس الآي في جملة تامَّةٍ أو ممتدَّة. طُرقُ معرفة الفاصلة القرآنيـَّة : أبانَ العلماءُ أنَّ طرق معرفة الفواصل القرآنية توقيفية لا توفيقية، والتوقيفية هي التي أشار إليها الجعبري(ت732ه): ((ما وقف عليه السلام دائمًا تحقّقنا أنّه فاصلة، وما وصله دائمًا تحقّقنا أنّه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى: احتمل الوقف أن يكون لتعريفها، أو لتعريف الوقف التام، أو للاستراحة، واحتمل الوصل أن يكون غير فاصلة، أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها.)) (الزركشي، ج 1 ص 98 ) ، وتابع الجعبري بأنَّ الطريق الآخر القياسي لمعرفة الفاصلة هو: ((ما أُلحق من المحتمل غير المنصوص عليه بالمنصوص، لمناسب. ولا محذور في ذلك؛ لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنّما غايته أنه محل فصل أو وصل. والوقف على كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز)) (الزركشي، ج 1 ص 98 ). وقد أوضح القاضي ذلك بطرق أربعة في عدّ رأس آي على غيره ( القاضى ،ص 24 ) بقوله: - أوّلها: مساواة الآية لما قبلها وما بعدها طولًا وقصرًا. - ثانيها: مشاركة الفاصلة لغيرها ممَّا هو معها في السورة في الحرف الأخير منها أو فيما قبله. - ثالثها: الاتفاق على عدّ نظائرها في القرآن الكريم. - رابعها: انقطاع الكلام عندها. وقد قصد العلماء بهذا: تمام الجملة في معناها ومبناها، وتحوّل الآية التي تليها إلى معنى آخر، وموضوع غير ما كان في هذه الآية. وقد وهم بعض المحدثين في تفسيره بـ(انقطاع الصوت) معلّلين ذلك أنَّه يعتمد على كمية اندفاع الهواء، وأنَّ هذا ما قصدته أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها)، في حديثها عن قراءة النبيّ ﷺ: ((كان يُقطِّعُ قراءَتهُ آيةً آية)) بدليل تفسير كثير من القدماء والمحدثين؛ قصدها أنَّه (صلوات ربي عليه وسلامه) كان يقف على كلّ آية، وإنَّما كانت قراءته ﷺ كذلك ليعلِمَ رؤوس الآي ( الحسناوى ، ص131-132) أنـمـَاطُ الفاصـلة القرآنيــَّـة: قَسَّمَ العلماءُ أنماطَ الفاصلة القرآنية تقسيماتٍ مختلفة، وقد بيَّنها الحسناويّ في كتابه ( الحسناوى ،ص 156-163) مشيرًا إلى أنَّ تعدُّدَ أبنيتها(أنماطها) وقعَ لاعتباراتٍ عدَّة، نذكرها بشيءٍ من الإيجاز هنا، مع مراعاة التركيز على ما يقوم عليه بحثنا:
يقول أبو الفرج ابن قدامة(ت 337) صاحب كتاب )نقد الشعر( أنَّ : ((السجع لمَّا كان زينة الكلام، فقد يدعو إلى التكلُّف؛ لذلك فقد رأى – وقد وافقه البلاغيون من بعده- ألَّا يستعمل في جملة الكلام، وألا يُخلى الكلام بالجملة منه أيضًا، ولكن يقبل من الخاطر فيه ما اجتلبه عفوًا، بخلاف التكلّف)) (الزركشى، ج 1 ، ص 60) ، وقد علَّلَ حازم القرطاجني(ت684) في (منهاج البلغاء) (الزركشى، ج 1 ، ص 59-60) نزول القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب؛ ولذلك لم ترد فواصل القرآن كلهَّا مسجوعة؛ فكلام العرب لا يحسن فيه أن يستمرَّ على نمط واحد منعًا من التكلُّف والملل، وافتنانًا في ضروب الفصاحة، ولهذا وردت بعض الفواصل متماثلة المقاطع وبعضها غير ذلك؛ وهذا ما صنَّفهُ الدكتور عدنان زرزور في مبحثين خاصين في كتابه(علوم القرآن) هما: (السجع القرآني) و(الأسلوب القرآني) وقد عنى فيهما الفواصل القرآنية؛ فشرح كيف تأتي ألوان الفواصل في القرآن إمَّا مسجوعة وإمَّا مرسلة، إلَّا أنَّها تأتي مخالفةً ما ألف الناس في السجع والإرسال. وقد خصَّ السيد خضر تعريفًا للفواصل المسجوعة بقوله: ((إحداث الإيقاع اللفظي في نهايات بعض الآيات)) ( خضر ،ص56) ، أي أنَّ هناك اتفاقًا بين أواخر الآي في الوزن أو الرويّ أو أحدهما كما مرَّ بنا في الأمثلة القرآنية السابقة ، بينما الفواصل المرسلة عكس ذلك؛ أي عدم اتفاق أواخر الآي في الوزن أو الروي كقوله تعالى ﴿..التَّلاقِ.. الْقَهَّارِ.. الْحِسَابِ. يُطَاعُ.. الصُّدُورُ.. الْبَصِيرُ﴾ [غافر:15-20]. إلَّا أنَّه – بعد استقراء المختلف منها - وجدتُها لا تخلو من اشتراكها مع باقي الفواصل بحروف المدّ أو اللين السابقة لحرف الفاصلة(الردف)؛ فهي بطريقة أو بأخرى يُرى فيها الانسجامَ التامَّ مع مثيلاتها في نفس السورة.
لقد أطلقتُ عليها مصطلح (القياسية)؛ نظرًا لما قام به الحسناويّ من إحصاءٍ للفواصل، قياسًا على حروف القافية الشعريَّة، فأسماها بــ(الفواصل حسب حروف الرويّ والردف والتأسيس والوقف بأنواعه) ( الحسناوى ،ص295-296) وربَّما تحرَّج الحسناويُ من تسميتها بفواصل حروف القافية تأسِّيًا بمن سبقهُ من العلماء من تحرّجهم وابتعادهم عن مصطلحات الشعر- ما أمكن -؛ فآثرَ في تسميتها تعدادَ حروف (القافية) دون ذكر مصطلحها. ولعلَّنا نذكرُ نبذةً من إحصاء الحسناويّ عن كلٍّ منها -دون ذكر عدد إحصائها- بالمصطلحات التي أطلقَها:
للفواصل مسمَّيات متعددة متناثرة في كتب المتقدمين والمتأخرين، كلٌّ منها تحملُ وظيفةً خاصةً بها، وقد ارتأيتُ جمعَها وتلخيصَها و-في بعض الأحيان- إعادةَ صياغتها، ثمَّ التعليقَ عليها وإضافةَ مسمى آخر لها - إنْ لزمَ الأمرُ-، وهي كالتالي:
تفطَّنَ د. محروس السيِّد بُريِّك إلى نوعٍ خاصٍّ من الفواصل- وإنْ سبقَهُ ثُلَّةٌ بإشارةٍ موجزةٍ إلى بعض حالاتها ودلالاتها - وهي الفاصلة المنفردة (بُريِّك، محروس السيِّد،ص 95 -131) ؛ فقد أحصاها ثمَّ استقراها في آي القرآن موضِّحًا تعريفها وأشكالها وبلاغة إيقاعها ودلالاتها؛ وعرَّفها بقوله: ((ورودُ فاصلةٍ ليس لها نظيرٌ في بقية السورة من حيث: الإطلاق والتقييد، أو حرف الروي (حرف الفاصلة)، أو الردف، أو التأسيس. وقد يتحقق انفراد الفاصلة بأحد تلك الأنواع أو باجتماع بعضها في فاصلة واحدة)) ((بُريِّك، محروس السيِّد، ص99-100) . كما أكَّدَ بُريِّكُ أنَّ انفرادَ الفاصلة عن بقية أخواتها في نفس السورة لا يُعَدُّ عيبًا فيها كما في القافية الشعرية، بل تقعُ لتُظهِرَ دلالاتٍ أو إيحاءاتٍ مُرادَةٍ يؤكدُها سياقا السورة المقاليُّ أو المقاميّ؛ لذلك انصرفت دراستُهُ إلى الوقوفِ على تلك الدلالاتِ الكامنةِ في التحوّل الإيقاعي المفاجئ في الفاصلة المنفردة، والإشارة إلى إيحاءاته الموسيقية- على اعتبار أنَّ الإيحاءَ ضربٌ من الدلالة، وما استنبطتُه من تلك الدلالات، ما يلي:
وإذا تأمَّلنا ما أتى به الكاتب محمد عبد الوهاب حمودة بقوله: ))تعداد الأمارات الدَّالة على موسيقى الفواصل مثل 1- زيادة حرف، ولا موجب له إلا المحافظة على الموسيقى... كما في سورة الأحزاب:(وتظنون بالله الظنونا)(() (الحسناوي، ص72-73) وقد نقل هذا الحسناوي في كتابه (الفاصلة في القرآن)، دون تعليق أو رفض على ما أتى به حمودة (الحسناوي، ص 72-73 ) والملاحظُ أنَّ التحليل الذي قدَّمه د. محروس بُريِّك يُعدُّ تحليلًا بلاغيًا وافيًا؛ مُعَلِّلًا أنَّ زيادة الحرف ومخالفته الدلالية والإيقاعية، ليست محافظة على موسيقى الفواصل فحسب، بل هي أساسٌ وإضافة هامة في المبنى والمعنى كما تم شرحه سلفًا، وسيأتي شرحه لاحقًا في الفصل القادم.
وَجَدَ الحسناويّ أنَّ هناكَ نوعان من الفاصلة -من حيث كونهما أصلًا وفرعًا- فأمَّا الفاصلة الأصليَّة فهي تلك الفاصلة التي تقع في نهاية الآية القرآنية، والتي سبقَ شرحها وتوضيح مفهومها وأنماطها (المتقاربة، المتوازنة...)، وأمَّا الفاصلة الداخليَّةً فهي المتفرِّعةُ من الفاصلة الأصليَّة؛ وتُعَرَّفُ – تعقيبًا وقياسًا على علمَيْ العروض والبديع- بكونِ الآية مبنيَّةً على فاصلتين، لو اقتصر على الأولى منهما كان الكلام تامًّا ومفيدًا، وإنْ ألحقتْ بها الفاصلة الثانية كان في التمام والإفادة على حالها مع زيادة معنى ما زاد من اللفظ، ومثالها قوله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمًۢا﴾ [الطلاق: 12]. ويشير الحسناويّ إلى أنَّ الفاصلة الداخلية ظاهرة من ظواهر القرائن والفقرات الطويلة؛ لأنها تقوم مقام المرتكزات والمحطَّات النفسيَّة معنىً وموسيقا. كما أنَّها تنقسمُ -كما الفاصلة الأصليَّة- إلى قسمين ( الحسناوى، ص 157 -158 ) :
تحدَّثَ د. كمال بشر عن هذه الفاصلة- ومن بعده د. مبارك حنون كما سيرد في أقسام الوقف- ؛ موضِّحًا أنَّها هي الفاصلة القرآنية ))في النطق والأداء الفعليّ للكلام، ولكنها – في الوقت نفسه – واصلةٌ؛ فهي تربط بين أطراف الكلام، وأخذه بعضه بحجز بعضه الآخر في البناء والدلالة، ودليل هذا الوصل أنَّه لا يجوز الوقوف على الشطر الأوَّل وحده، ويرتبط الأداء الصحيح لهذه الفواصل بعنصرين مهيمنين من عناصر التوصيل اللغوي؛ هيئات التركيب أي (قواعد اللغة grammatical rules). والمعنى الذي يفصح عنه التركيب؛ فهذان العنصران متلازمان صحة وفسادًا، فإذا صحَّ التركيب صح المعنى، والعكس صحيح؛ فالتراكيب الصحيحة تقدّم فرصًا أوسع لمعانٍ سياقية منوعة، وجميعها تتآزر في بيان المعنى الكلي للمنطوق. وهنا تأتي الفواصل الصوتية مع ظواهر صوتية أخرى (كالتنغيم مثلًا) عاملًا مهمًّا في الإفصاح عن هذه المعاني السياقية. ومثال ذلك، قوله تعالى: ﴿وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم.﴾ [الأنعام: 100]. قرئت كلمة (الجن) بالنصب في رواية وبالرفع في رواية أخرى، وكلتا القراءتين صحيحة بالنسبة للمعنى الكلي للآية الكريمة؛ فالنصب على أنَّ الكلمة بدل من سابقها المنصوب أو هي مفعول به أول مؤخر و(شركاء) مفعول به ثان مقدم، ومن ثم لا فصل بينهما في النطق، والرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وعلى هذا يقتضي النطق الصحيح سكتة خفيفة بين شطري الآية، أي بين كلمة (شركاء) وكلمة (الجن)، وعلامتها في الكتابة الفاصلة(،)(( (بشر، كمال، ص 543، 553، 554 ).
أبانَ د. تمَّام حسَّان ما سبقه الأقدمون من بيان علاقة الفاصلة بتركيب رأس الآي؛ فهي لا تخرجُ عن كونها أحد نوعين؛ فالنوع الأوّل -وقد أسميتُهُ بالفاصلة التكميليَّة–؛ حيث تكون فيه الفاصلة جزءًا من تركيب الآية مكمِّلًا لبنيتها ومتمِّمًا لمعناها، وهذا نجده في القرآن كثيرًا؛ فمثلًا ورد قوله تعالى:﴿وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ. قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ. فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾[الأعراف:74-79]. فكلُّ هذي الآيات السابقة نجدها منتهيةً بفاصلةٍ ذات علاقة عضوية -تركيبيًّا أو أسلوبيًّا- بما سبق من بقية الآية؛ بحيث لا تستغني الآية عن هذا الجزء دلاليًّا لشدة الارتباط بينه وبين باقي أجزائها ( تمام حسان ، القسم 2، ص 279-280) . وأمَّا النوع الثاني فقد أسماه العلماء السابقون بالفاصلة التَّذييليَّة؛ والمقصود بالتَّذييل هو: ((أن يُؤتى بعد تمام الكلام، بكلامٍ مستقلّ في معنى الأول؛ تحقيقًا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه؛ ليكون معه كالدليل؛ فيظهر المعنى عند من لا يفهم، ويكمل عند من فهمه)) (الزركشي، ، ج 3 ص 68، والسيوطي، ج 3 ص 179) ؛ أو ((أن يُذِّيل المتكلم كلامه بجملة يتحقق فيها ما قبلها من الكلام) (ابن أبى الأصبع،ص387) ولا بُدَّ من التذييل أن يكون في نهاية الموضوع المتكامل؛ كقوله تعالى:﴿وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوٓاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءًۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلًا مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[المائدة:38]، فالفاصلة (وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) جاءت ((معقِّبةً على هذه الآية، موضِّحةً مدى ترابطها مع موضوع الآية، مبيِّنةً وجه المناسبة بين التذييل الذي خُتمتْ به الآية وما سبقها؛ فأعطتْ معنى عميقًا للسياق الذي جاءت فيه، فيتعلق معناها بمعنى الآية كلها؛ ولتكشف عن الوجه الترابطي بين الآيات بعضها ببعض)) ( الهنا ،ص24-25). ولقد أشار إليها المتقدمون (كالزركشي والسيوطي وابن عاشور والألوسي )والمتأخرون دون ذكر مسمَّاها؛ فالحسناويّ مثلًا شرح حالات مجيئها معقِّبةً للآية، أو ملخِّصة لمضمونها، أو مؤكدةً لمعناها ( الحسناوى ،ص156-157). والمُلاحَظُ على الفاصلة التذييلية أنَّها كثيرًا ما تكونُ منتهيةً بأسماء الله الحسنى؛ ولعلَّ هذا ما جعل العلماء يفسِّرونها بأنَّها تعقِّبُ أو تلخِّصُ أو تؤكدُ ما ذُكِر. كما أنَّها اختلفت عن الفاصلة التكميليَّة؛ فبينما تأتي التذييليّة في بعض سور القرآن عند انتهاء الكلام في رأس الآي أو الآية التي تليها أو بعد بضع آيات، تأتي الثانية في باقي سور القرآن بعد انتهاء كل آية؛ لذلك كانت الفاصلةُ التكميليَّة أكثرَ شيوعًا وانتشارًا من نظيرتها.
أتى الحسناوي بهذه الفاصلة مسمِّيًا إياها بالــ(لازمة، ملتزمة) ( الحسناوى ،ص160) ؛ وهي – كما أوضح في شرحه – يتناولها علماء البلاغة في بابي: التسميط (أي أنْ تجمعَ الأبياتِ الشعريَّةَ قافيةٌ لازمةٌ للقصيدة حتى تنتهي)، والتطريز(أي أواخر الأبيات في القصيدة كالطراز في الثوب). ولكنَّ الحسناويّ أتى بهذا المصطلح طلبًا للدقة في تسميتها والتمييز لها باعتبارها أساسًا والتزامًا للكلام لا صناعةً متكلفةً؛ فالنصُّ يلتزم فاصلة بعينها مخالفة لعددٍ من الفواصل المتفقة قبل هذي الفاصلة الملتزمة، وهكذا دواليك، وللفاصلة الملتزمة أنماطٌ عدَّة ( الحسناوى ،ص160) ، وأمثلتها كثيرة في القرآن، منها –على سبيل المثال لا الحصر- :
ثانيًا: الوقف الصوتي وأقسامه ووظيفته: يُعتبرُ الوقف ))من أكثر الفونيمات فوق التركيبيّة (عمر، أحمد مختار، ، ص 219، 334. أحمد، عطية سليمان، ص 23 ) التي اعتنى بها علماؤنا عناية فائقة وبخاصة القرَّاء وعلماء التجويد والنحاةُ والبلاغيّون تنظيرًا وتطبيقًا؛ فوصفوه وصفًا علميًّا دقيقًا، وتتبَّعوا مواضعه ثمَّ رصدوا قيمته في النصّ القرآني كاملًا، كما أفردوا له مؤلفات كاملة بطريقة منهجيّة علميّة(( ( حبلص، محمد يوسف، ف1، ص 18-19. بشر، ، ص 531. حنون، ، ص 107-117) ؛ كما أنَّ الوقف يُعتبر أحد القرائن السياقية التي تتحدد من خلالها الدلالةُ النصيةُ وفقًا لما يكون عليه التركيب، وأحد الأركان الرئيسة في مجال الدراسات الصوتية والدلالية؛ حيث أنَّ تحديد مواضع الوقف في الكلام من شأنه أن يحدد أشكال التراكيب، ثم دلالتها، فإذا اختلف موضع الوقف، فإنه يختلف بالضرورة شكل التركيب، مما يترتب عليه -حتمًا- اختلاف دلالة هذا التركيب (أحمد، محمد أحمد محمد، ص 377 )، وتُعَدُّ ظاهرة الوقف هذه منعًا للتنافر ودلالةً على موقع انتهاء الدفعة الكلامية؛ لذلك وصف الزركشيّ(ت794ه) الوقف بأنَّهُ ))فنٌّ جليل به يُعرفُ كيفَ أداء القرآن، وبه تتبيَّنُ معاني الآيات، ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات(( (الزركشي، ج 1 ص 342 ) . وهو موقع يرتبط بتمام المعنى جزئيًّا أو كليًّا أو عند انقطاع النفس أو أيّ سبب آخر ( حسان ،ص270) ، وقد ظهرَ مفهومُ الوقف في عدَّة جوانبَ سنستعرضها وفق مجالها الذي تنتمي إليه. ففي الجانب المعجميّ (اللُّغويّ) ورد الوقف في مادة (و. ق. ف)، وهو الوقوف خِلافُ الجُلوسِ، وَقَفَ بالمَكانِ وَقْفًا ووُقُوفًا، فَهُوَ واقِف، والجَمْعُ وُقْف ووُقُوفًا. وهو أيضًا بمعنى الحبس، والكفُّ عن مُطل شيء. كما وردت له معانٍ أخرى، مثل: ((الحبس والمنع)) (ابن منظور، ج15 (9/359). المصري، ص 150. معجم الدوحة، مادة (وقْف) ) ، أو ((الكفّ عن الفعل والقول)) (الأشموني، ص 8 ). وجاءت كلمة الوقف في معجم الدَّوحة التاريخيّ بعدّة معانٍ:
وَاسْـلُ عَـنِ الـحـُبِّ بـِمَـضـْلُـوعِـهِ تـَابَـعَـهَـا الـبـارِي وَلـَمْ يَـعْـجـلِ كَـالـوَقـْفِ، لا وَقـْرٌ بِـهـَا هَـزْمُـهَـا بِـالشّـَرْعٍ كـَالـخـَشْـرَم ذِي الأزْمـَلِ
دَعَانِي إلى أسْمـَاءَ عَـنْ غَـيْـرِ مَـوْعِـدٍ صُـرُوفُ مَـنَايـَا كانَ وَقْـفَـاً حِمَامُهَا
فَــإذَا مَــرَرْتَ بِـــقَـبْـــرِهِ فَـأَطِــلْ بِهِ وَقْــــفَ المَطِيَّــــــةِ
وخلاصة معنى الوقف اللغويّ في هذه المعاجم – وإنْ تعدِّدت مسمَّياتها – تعني معنىً واحدًا هو الكفّ . وأمَّا في الجانب الأدائي (الصّوتيّ) فقد وردَ تعريف الوقف في معجم الدوحة التاريخيّ، نقلًا عن الفراهيدي وسيبويه الآتي:
وقد عرَّفه أبو حيَّان الأندلسيّ(ت745هـ) بأنَّه: ((قطع النطق عند آخر اللفظ، وهو مجاز من قطع السير، وكأنَّ لسانه عاملٌ في الحروف ثم قطع عمله فيها)) (أبو حيان ،ج1،ص133). وأمَّا من المحدثين، فقد عرّف حَبْلَص الوقف بقوله:((ظاهرة صوتيّة أدائية تصاحب الخطاب المنطوق على وجه الخصوص)) (حبلص، محمد يوسف، أثر الوقف على الدلالة التركيبية، ف1، ص 15) ، وعرفَّه الجيلالي بقوله: ((تسكين الحرف الموقوف عليه (لعبابسة، صافي الدين، ، ص 251 ( . وأمَّا د. حنون فقد منح الوقف شموليةً بتعريفه، في أكثر من موضع في كتابه، قائلًا: ((هو إعلام سمعيّ قويّ يقع بنهاية الدورة الإيقاعية التي تكونها الفاصلة، والوقف وسيلة صوتية يلجأ إليها المرء للفصل بين الجمل وأجزاء الجمل، وللفصل بين الأقوال الصغار والأقوال الكبار؛ فهو تقطيع للسلسلة الكلامية وفق محددات نحوية ودلالية وقولية، وهو ظاهرة تطريزيّة منظّمة للكلام، وبنية مجردة تشكل ركنًا أساسيًّا من الصواتة الإيقاعيّة، ومكوّن إيقاعيّ فاصل واصل بين مختلف الوحدات الإيقاعية، وضابطًا تطريزيًّا للتركيب)) (حنون ،ص84،119) وإنَّما بتعريف د. حنون هذا-وإنْ كانت خاصّة بالوقف- قد وضع حدًّا واضحًا للوقف الصوتي ؛ وما أراه إلا هو تعريفٌ شامل للفاصلة. وفي خلاصة ما سبق من تعريفاتٍ في الجانب الصوتيّ للوقف نصل إلى أنّ الوقف هو: قطع النطق عمَّا بعده. وفي اصطلاح علم القراءات في أوَّل مُصنَّف لهذا العلم كتاب (إيضاح الوقف والابتداء)؛ لأبي بكر محمد بن القاسم الانباري (ت 328 هـ)؛ والباحثُ في كتابه لا يجدُ تعريفًا صريحًا لعلم الوقف، لكنَّه يجد أسس العلم وأقسامه وتحليلًا بديعًا لآي القرآن. ثمَّ يأتي الجعبريّ(ت732هـ) ويعرّف الوقف بقوله: ((قطعُ صوت القارئ على آخر الكلمة الوضعية زمانًا)) ، وكذا عرّفهُ ابن الجزريّ (ت833هـ) – ونصَّ عليه السيوطي(ت911هـ) (القسطلاني، ج 3 ،ص 490 )- بقوله: ((الوقف عبارة عن قطع الصوت زمنًا يتنفس فيه عادة بنيّة استئناف القراءة، إمّا بما يلي الحرف الموقوف عليه، أو بما قبله لا بنية الإعراض. ويأتي في رؤوس الآي وأوسطها، ولا يأتي في وسط الكلمة ولا فيما اتصل رسمًا. ولابد من التنفّس معه)) (ابن الجزري، ج1، ص 240 )ويوافقه في التعريف كلٌّ من شيخ الإسلام زكريا الأنصاريّ (ت902هـ) بقوله:((القطع الذي يسكت القارئ عنده))( الأنصاري، ص 4 ) ، والأشموني (من علماء القرن الحادي عشر) قائلًا:(( قطع الصوت آخر الكلمة زمنًا ما، أو قطع الكلمة عمَّا بعدها)) (الأشموني، ص 8) واستقرأ د. محمد محيسن تعريف القرَّاء المحدثين - كمحمد قمحاوي وعامر السيد عثمان والحُصريّ وغيرهم- للوقف فجمعه بقوله: ((هو قطع الصوت عن القراءة زمناً يسيراً بتنفّس مع نية استئناف القراءة)) (محيسن، محمد سالم، ص 16) والخلاصة فيما سبق – كما نلحظ - هي اتفاق القرَّاء على تعريف الوقف بقطع الصوت آخر الكلام بتنفسٍ ونية استئناف. وأمَّا في الاصطلاح النحويّ فورد مفهوم الوقف بأنَّه: (الكفّ) عن مواصلة القراءة لسببٍ من الأسباب، كتفادي تجزئة المعنى الواحد، أو البدء بما يفسد المعنى، أو أنَّ القارئ لا يسعفهُ التنفس ( كامل ،ص436) ، ورغم علم وتأليف النحاة القدامى -كسيبويه ومنْ بعده- عن الوقف، لكنَّهم لم يعرِّفوا الوقف نصًّا -وإنْ تضمَّنوه شرحًا وتفصيلًا- فأمَّا العكبريّ(ت616هـ) فقد عرَّفَه بقوله: ((الوقفُ ضدُّ الابتداء؛ لأنه يكون عند انتهاء الكلمة، ولما استحال الابتداء بالساكن استحسنوا في ضده، وهو الوقف، ضد الحركة، وهو السكون)) (العكبري، ج 2 ص 196) وأمَّا ابن يعيش (ت643هـ) فقد أبان من تعريف الوقف وأهميته في كتابه شرح المفصَّل فقال: ((الوقف على الساكن صنعة واستحسان عند كلال الخاطر من ترادف الألفاظ والحروف، والحركات، وهو ما يشترك فيه الاسم والفعل والحرف)) (ابن يعيش، شرح المفصل، ج 9 ص 67 ) وعرَّفَ ابن الحاجب(ت 646 هـ) الوقف بأنَّهُ ((قطعُ الكلمة عمَّا بعدها)) (ابن الحاجب. بن يونس، ص 63) وشرح الاستراباذي(ت 686 هـ) تعريف ابن الحاجب هذا بقوله: (( أي أنَّ السكتَ على آخرها قاصداً لذلك مختاراً لجعلها آخر الكلمة سواء كان بعدها كلمة، أو كانت آخر الكلام)) (الرضي، ج 2 ص 271)، وعرَّفَ أبو زيد عبد الرحمن بن علي صالح المكودي (ت807هـ) الوقف بأنَّه:((قطع النطق عند آخر الحركة)) (المكودي، ص 188) ، ويوافقه في تعريفه هذا كلٌّ من خالد بن عبد الله الأزهري (ت905هــ)( الأزهري، ج 2 ص 341)وعلي بن محمد بن عيسى الأشموني (ت918هــ) (الأشموني،ص3-747) وبعض العلماء المحدثين كــ: محمد عبد العزيز النجار، وعبد العزيز حسن( النَّجار، ج 2 ص 411). وعرَّف حَبْلَص الوقف مستفيدًا من العلماء القدامى بقوله: ((هو عبارة عن قطع الصوت على الكلمة زمنًا يتنفّس فيه القارئ عادةً بنيّة استئناف القراءة- فمن حيث الزمن يستغرق الوقف وقتًا يسمح بالتنفّس، ويكون ذلك على رؤوس الآي أو وسطها، ولا يكون في وسط الكلمة، ولا فيما اتصل رسمًا من الكلمات، ومن حيث القصد، فإنَّ القارئ يقفُ لا بنيّة الإعراض وعدم الاستمرار في القراءة، بل بنيّة الاستراحة التي تسمح له بالتنفّس، والعودة مباشرة لاستئناف القراءة)) (حبلص، محمد يوسف، ص 24) . وجمع حسّان في تعريفه للوقف بين العرب القدامى والغرب المحدثين قائلًا: ((يدلُّ الوقف بوسائله المتعددة على موقع هو في طابعه (مفصلٌ) من مفاصل الكلام، يمكن عنده قطع (السلسلة النطقية chain of utterance) فينقسم السياق بهذا إلى (دفعات كلامية spoken groups) تعتبر كل دفعة منها إذا كان معناها كاملًا (واقعة تكليمية speech event) منعزلة، أمَّا إذا لم يكن معناها كاملًا كالوقف على الشرط قبل ذكر الجواب مثلًا؛ فإنَّ الواقعة التكلمية حينئذٍ تشتمل على أكثر من دفعةٍ كلامية واحدة))( حسان ،ص270) . وهذا يتوافق مع ما ذكره د.أحمد مختار عمر عن المفصل(juncture) والذي يسمى كذلك الانتقال (transition) بأنَّه: ((عبارة عن سكتة خفيفة بين كلمات أو مقاطع في حدث كلامي بقصد الدلالة على مكان انتهاء لفظ ما أو مقطع ما، وبداية آخر. وهناك في اللغات (ثنائيات صغرى) لا يميز الواحد منها عن الآخر إلا موضع المفصل، ولذلك سمَّاهُ اللغويون (فونيم المفصل). وحين حصر (Dinneen) فونيمات اللغة الإنجليزية في خمسة وأربعين فونيمًا ذكر من بينها فونيم المفصل. والانتقال قد يكون حادًّا فيسمى المفصل مفتوحًا (open juncture)، ويرمز له في الكتابة بعلامة زائد. وقد يكون خفيًّا فيسمى المفصل ضيقًّا (close juncture))) (عمر، أحمد مختار، ص 231،عمر، أحمد مختار ، (الكتاب المترجم : ماريو باي)، ص 95) والملاحَظُ أنَّ جميعَ تعريفات علوم النحو والقراءات واللسانيات للوقف تصبُّ في قالبٍ صوتيٍّ واحدٍ؛ فالكفّ عن مواصلة القراءة هي قطع (الصوت أو الكلمة) عمَّا بعدهما للتنفسِّ ولسلامة المعنى من فساده. الوقف إذن مُتَّفَقٌ على مفهومه لدى العلماء في مختلف جوانبه؛ ومن ثَّمَ فهو في القرآن: ((قطع عملية إنتاج الصوت اللغوي للفظة القرآنية؛ وهو بذلك خلاف الابتداء الذي يُعرّفُ باستئناف ذلك الإنتاج الصوتي اللغوي)) (المنصوري، الجابري ،ص142) أمَّا الوقفة هي برهة انقطاع عن مواصلة الكلام في القراءة، وذلك لانتهاء المعنى أو جزء منه، أو أنَّ التنفس لم يسعف القارئ في مواصلة الكلام، كما يكون في الشعر بين شطري البيت أو في نهايته، أو نهاية مقطع شعري. وعند العرب كان للوقفة مبحث خاص لدى القراء، فوضعوا في المصاحف رموزًا وإشارات لتهدي القارئ إلى موضع الوقف (كامل. وهبة، ، ص 437 )، بيد أنَّ د. كمال بشر لا يرى فرقًا بين مصطلحي الوقف والوقفة؛ وإنّما جعلهما بمعنى واحد، وآثر استخدام الأخيرة كمصطلح أساسي في شرحه، مُفَرِّقًا بين الوقفة والسكتة والاستراحة) ( بشر ، ص554-555) . وهناك فرق بين (الوقف-السكت-القطع) عند علماء التجويد والقراءة؛ فالوقف (بتنفّس وزمن أطول) والسكت (من غير تنفس وزمن أقل) وكلاهما يكون بنية استئناف القراءة، وأمَّا القطع فهو بنيّة الإعراض عنها والانصراف إلى غيرها (السيوطي، ، ج 1 ص 244،243، الأشموني، ص 8) تناولت كتب الدراسات القرآنية والقراءات والنحو والدراسات الصوتية أقسام الوقف المتواتر وفقًا لبناء العبارة، وما يترتب عليها من تغيير يلحق المعنى، حيث قسَّم العلماء الوقف إلى أقسام عدَّة مختلفة الاتجاهات والعلوم عمومًا كوقف الفقهاء والقرّاء والنحاة، والذي يعنينا في هذا البحث النوعان الآخران، وعلى الرغم من اشتراك القرَّاء والنحاة في بعض أنواع الوقف(كالرَّوم والإشمام) (إبراهيم أنيس، ، ص 222) إلَّا أنَّ هناك فرقًا بينهما؛ فالقرَّاء -مثلًا- يأخذون في اعتبارهم الناحية المعنوية؛ أي وفقاً للمعنى الذي تؤديه الجملة المراد الوقوف عليها وتفادي تجزئته، وتحاشي البدء بما يفسده ويقطعه من أوصال الآية الواحدة (إبراهيم أنيس، ، ص221) وأمَّا النحاة فينظرون إلى الوقف لمجرد الاستراحة؛ فيجوِّزون الوقف على المفردة سواء كانت اسمًا، أو فعلًا أو حرفًا (محيسن، محمد سالم، ص 17-18 ) . كما وقد لخَّص د. كمال بشر -وتبعه مبارك حنون-وقف القرَّاء والنحاة في وقفٍ صوتيٍّ جامعٍ لكليهما، وسأعرضها جميعًا باختصار يفيد البحث. أوَّلًا: وقفُ القرَّاء (كرامة معيلي ،ص214-221 ): قسّم القرّاء الوقف في التلاوة وتجويدها نوعين تتفرّع منهما أقسامه، أوّلهما وقف اضطراري وهو ما اضطر إليه لضيق تنفس، ونحوه، كعجز ونسيان، فعلى القارئ وصله بعد أن يزول سببه، ثمَّ يبدأ بالكلمة التي وقف عليها إن كانت تصلح للابتداء بها، وإلا عليه أن يبتدئ بعد وقف صالح مما قبلها. وثانيهما وقف اختياري وهو يقصد لذاته من غير عروض أي سبب، ويختاره القارئ للاستراحة والتنفس. وهذا القسم هو المراد بالحديث عن الوقف: لأنه هو الذي يعتمد عليه فقه القارئ، وبصيرته حيث تظهر فيه شخصيته في اختيار ما يقف عليه وما يبتدئ به. كما أنَّ هذا القسم ينقسم عدة أنواع هي:
ومن أمثلة الوقف التام قوله تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 34]، حيث أن الوقف على (أذِلَّةً) تام عند الجمهور، وهو على (وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ) أتم. وقد يكون الوقف تامًا على قراءة دون أخرى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿الٓر ۚ كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إلى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلىٰ صِرَٰطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ. اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ.﴾ [ابراهيم 1 – 2]. فالوقف على (صراط العزيز الحميد) تام على قراءة من رفع لفظ الجلالة(الله). وأمَّا على قراءة من خفض لفظ الجلالة (الله) فليس بتام بل وقف حسن. الوقف الكافي ويسمى (الصالح والمفهوم والجائز)، وهو وقف على كلام يتعلق بما بعده معنى لا لفظًا؛ كأن يكون الكلام جاء بعد محل الوقف تمامًا لقصة أو وعدًا أو وعيدًا أو حكمًا أو احتجاجًا أو إنكارًا. ولم يفصل فيه بين المبتدأ وخبره، ولا بين النعت ومنعوته، ولا بين المستثنى والمستثنى منه، ولا بين التمييز ومميزه، ولا بين الفاعل وفعله، ونحو ذلك. ومن أمثلة هذا الوقف قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء 23]، فالوقف على "حرمت عليكم أمهاتكم"، وقف كافٍ، ثم الابتداء بما بعد ذلك. وهكذا باقي المعطوفات.
وبعد فهذه الأقسام الثلاثة يجوز فيها الوقف مع التفاوت بينها؛ فيندب الوقوف على الأتم وإلا فالتام، وعلى الأكفى وإلا فعلى الكافي، وعلى الجائز – الحسن – ويعيد ما وقف عليه إلا أن يكون رأس آية.
ثانيًا: وقف النحاة: فصَّل النحاةُ أداء الوقف المختلف فيه عند قدامى العرب تبعًا لطريقة كلّ قبيلة فــ((انقسموا إلى طائفتين متميزتين: طائفةٌ تنتظرُ -أي الوصل- وطائفةٌ لا تنتظرُ -أي الفصل-)) (إبراهيم أنيس، ص223) ؛ فمنهم من يقفُ بطريقةٍ أشبهُ بالوصل، وآخرون يقفون بالنقل، وثالثهم من يقف بالحذف، وغيرهم من يقفُ بالتضعيف، وأمَّا قريش والحجازيّون فهم من الطائفة التي لا تنتظر؛ فتسقط الضمّ والكسر عند الوقف، وتبقي على الفتح، فتقول:(جاء محمدْ، وسلّمتُ على محمدْ، ورأيتُ محمدا) وهذا هو أفصح الطرق، والتي نسير عليها الآن، وبها جاء الوقف القرآني (إبراهيم أنيس، ص223- 236، كامل ، ص 436- 437 ). وتحدّث النحاة وغيرهم عن الوقف الترنّمي ((كالوقف على نحو: أقلّي اللوم عاذل والعتابا، بالتنوين ويسمى تنوين الترنم)) ( حنون ،ص202) ، وأحسب أنّ هذا ما أراد به سيبويه في قوله: ((أمَّا إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والواو والياء، ما ينون وما لاينون؛ لأنهم أرادوا مدّ الصوت، وإنّما ألحقوا هذه المدة في حروف الروي لأن الشعر وضع للغناء والترنم، فألحقوا كل حرف الذي حركته منه)) ( سيبوية،ج4،ص204-206). كما تحدّث العلماء عن الوقف الاستثباتي الذي نستثبت ونتأكد من الشخص المتحدث عنه (( كما تقول (المن) لمن قال جاء زيد فيأتي بمن معرّفة باللام منسوبة للسؤال عن وصف زيد أي الهاشمي أم العلوي..)) (ابن جماعة ،ج1،ص168). وأمَّا الوقف التذكّريّ فهو الوقف الذي يحوّل فيه صاحبه الحركة إلى حرف مدّ ريثما يتذكر؛ (( فتقولُ في قالَ قالا، وفي يقولُ يقولو، وفي من العامِ من العامي، فيقطع اللفظ عن تمامه بسبب عدم ذكره، وتجعل هناك مدة لتتذكر، وتسمى مدة التذكر)) (ابن جنى،ج3،ص128) ، وقد أفاض ابن جني في (الخصائص) وأسهب في شرحه. وتحدَّث العلماء عن الوقف الإنكاريّ؛ والذي يهدف صاحبه إلى إنكار الأمر المتحدث عنه، فهو مغاير لحقيقته، ويلزم في هذا النوع من الوقف مدّ اللفظ الموقوف عليه ((ثمَّ إن كان آخر الكلمة منوّنًا، كسر التنوين وتعينت الياء، كما تقول منكرًا: أزيدنيه، بــ(دال مضمومة، ونون مكسورة) وهي التنوين، حرك لسكون مدة الإنكار)) (ابن جماعة ،ج1،ص169). وهناك الوقف الإعرابي (أبو عرب، ص2259-2260): وهو مواضع الوقف عند اكتمال الجملة الإسنادية، أو القائم بالضرورة على مراعاة المعنى الذي يفرض توجيهًا بعينه للإعراب؛ وفيه يقول ابن جني: وذلك أنّك تجد في كثير من المنثور والمنظوم الإعراب والمعنى متجاذبين: هذا يدعوك إلى أمر، وهذا يمنعك منه، فمتى اعتور كلامًا ما أمسكت بعروة المعنى، وارتحت لتصحيح الإعراب، فالوقف الإعرابي إذن تلك المواضع التي تمثل مقاطع صغرى للمعنى لكن الضابط فيها أن يتم للجملة بناؤها. ويعتبر الباحث محمد أبو عرب الوقف الإعرابي هو الحلقة الأدق والأصغر من حلقتين صغرى وكبرى؛ فكأننا ننتقل من كبرى حلقات الوقف (الوقف الموضوعي) إلى حلقة أدقّ أو أصغر (الوقف المعنوي) تشتمل عليها الكبرى، إلى حلقة أدقّ (الوقف الإعرابي) وهي اللبنة الصغرى للبناء النصي. وهذا الوقف شائع في القرآن الكريم من أوّله إلى آخره، مثل قوله تعالى: ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾ [البقرة 7]، فالوقوف على (سمعهم) لاكتمال الجملة، فالجار والمجرور والعطف عليه (على قلوبهم وعلى سمعهم) متعلق بالفعل (ختم)، أمّا الواو التالية فهي استئنافية، والجار والمجرور بعدها متعلق بخبر محذوف للمبتدأ المؤخر(غشاوة) ولذلك جاءت مرفوعة، وهذا هو الوقف الإعرابي الذي يقع داخل المعنى الواحد، ومنه قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ﴾ [غافر62]، إذ يجوز الوقف على (ربكم) بوصفها خبرًا ل (ذلكم) ويكون لفظ الجلالة بدلًا من اسم الاشارة، وتكون لفظة (خالق) خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره (هو)، ويجوز كذلك الوقف على لفظ الجلالة لكونه خبرًا لاسم الاشارة، ويكون لفظ (ربكم)، عند البدء به، مبتدأ، وخبره (خالق)، كما يجوز وصل الآية، وتكون لفظة (خالق) نعتًا للخبر، وكل هذه وجوه إعرابية مقبولة تسوغ الوقف على أيٍّ من المواضع المذكورة. وقد يميز الوقف الإعرابي بين وجوه للدلالة عند الوقف والابتداء، بحيث تتعدد دلالة الآية الواحدة تعددًا يُسلم إلى بيان معنى واحد بطرائق عدة من خلال مراعاة الوقف والابتداء، ونظير ذلك قوله تعالى: ﴿وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجاثية 28]، ففيه أوجه من الوقف الإعرابي، حيث يمكن للقارئ الوقوف على (جاثية) ثم البدء بجملة جديدة (كل أمّة) من غير تغير في المعنى، كما يمكنه الوقوف على قوله تعالى(كتابها)، ويبدأ بقوله (اليوم)؛ لتكون لفظة (اليوم) متعلقة بجملة (تجزون)، و(اليوم) هو الوعاء الزمني للجزاء، أو أنْ يقف القارئ على قوله (اليوم)، لتكون لفظة (اليوم) متعلقة بالتداعي إلى الكتب، فتكون وعاء زمنيًا لجملة (تدعى)، ولا شك أنّ ذلك كله ينصبّ في أساس المعنى الذي تقصد إليه الآية الكريمة. ثالثًا: الوقف عند د. كمال بشر: لقد وقع الاختيار في دراسة الوقف الصوتي على اثنين من علماء العرب المحدثين د. كمال بشر و د. مبارك حنون؛ فأمَّا د. بشر فلأنّ دراسته تصبُّ في صلب موضوع رسالتنا - والتي تبحث في الوقف الصوتي للفاصلة القرآنية-؛ حيث قدّم د. كمال في كتابه (علم الأصوات) ( بشر ،ص554-557) الوقف الصوتي تحت مسمَّى (الفواصل الصَّوتية)؛ وإنّما عنى بها – كما سأوضح بعد قليل- الوقف الصوتي. وفيما يخصُّ الفاصلة الصوتية في كتابه، قمتُ باستقرائه وجمعه وتلخيصه و– أحيانًا – تسميته؛ فوجدتُه ثلاثة أقسام، كما في الشكل التالي:
الشكل رقم (1) الفواصل الصوتية (الوقف الصوتي) لقد ترجم د.كمال بشر الفواصل الصوتية إلى المصطلح(pauses)؛ وعرَّفَها نصًّا: ((نعني بها الوقفات والسكتات والاستراحات)) ( بشر ،ص529، 532 )، فهو إذن يعتبرها وقفًا صوتيًّا يقع في نهايات الجمل، وعليها المعوّل في تحديد إطار التنغيم وإدراك نغماته، كما يعتبر د.بشر (التنغيم والفواصل) الأمارات الأساسية الدالّة على أنماط التراكيب وكيفيات تكوينها، وبهما تُصَنَّف التراكيب إلى أجناسها النحوية، وتُحَلَّل تحليلًا لغويًّا سليمًا ونحويًّا ودّلاليًّا، ويُحكم على صحة الأداء والتجويد ( بشر ،ص532-553). وبالنظر إلى ما قدَّمه د. بشر حول هذي الفواصل الصوتية، نجد الرؤية العلمية تبدو ضبابية لديه نوعًا ما؛ حيث جمع بين بعضها في التسمية وخلط البعض الآخر؛ لكنَّ الأمثلة كانت واضحة لديه فتمكَّنتُ من استخلاص اصطلاحٍ خاصٍّ بكلٍّ منها، وتحديد تعريفها، بل وتصنيفها إلى ثلاثة:
الجدول رقم (1) الفرق في الوقف عند القراء والنحاة والدكتور كمال بشر
وملخّص هذا الجدول المقارن أنَّ القرَّاء يرون الوقف أداة تجويدية تضبط التلاوة وتمنع اللحن مرتكزين على أحكام التجويد، بينما النحاة يرون الوقف أداة لغوية تحدّد البناء النحوي والمعنويّ معتمدين على لغة قبائل العرب وضوابطها، أمَّا كمال بشر فيرى الوقف ظاهرة صوتية تضبط الإيقاع في الكلام مرتكزًا فيها على الانسجام والتناغم. وهذا بالضبط ما سلكه د. مبارك حنون متَّبِعًا نهج د. بشر في ماهية الفاصلة الصوتية، فكان هو الخيار الرئيس الثاني. رابعًا: الوقف عند د. مبارك حنون: كان هذا الاختيار الثاني المنصبّ على كتاب مبارك حنون (في التنظيم الإيقاعي للغة العربية نموذج الوقف)؛ لأن بحثه في الوقف كان في القرآن وأنواع الوقف من خلال كتب إعراب القرآن، وتحديدًا في الفاصلة القرآنية – والذي هو مقصد دراستنا- مستفيضًا بالاهتمام الأكبر بعناية العرب القدماء بالحرف الموقوف عليه، وفي بعض الأبواب النحوية، وفي ظاهرة اللبس التركيبي – وهذا المقصد الثاني لدراستنا-؛ فلقد استطاع د. حنون أن يعرض في كتابه الموسوم خلاصة فرضيته الأساسية والتي مؤداها: أنَّ الوقف بنية إيقاعية لفظية فرعية تبني الكلام وتنظمه تنظيمًا زمنيًّا؛ وهكذا يمكننا النظر إلى الوقف في ارتباطه الصميمي باللغة، أي باعتباره بانيًا لها، لا نقيضًا لها. كما ربط حنون الوقف بالفاصلة – أيًّا كانت لغوية أو اصطلاحية - برباط وطيد فلا أحدَ منهما ينفكّ عن الآخر؛ حيث بات الوقف ملمحًا للفاصلة، ومعلمًا لحدود المجموعات الإيقاعية، وعاملًا رئيسًا لظهور الفواصل (المقطع الختامي) ممَّا يمنحها بروزًا وتقويةً وصعودًا، مثلما تكون بداية الكلام بالبروز والتقوية والصعود ( حنون ، ص251 ) . وكان هو الأكثر تأثيرًا في دراستي وبحثي من الناحيتين النظرية والتطبيقية؛ ومن أبرز ما توصَّل إليه في إثبات فرضياته لهذا البحث -باختصار- هو أنَّ ( حنون ، ص268، 270، 271، 274) :
يُعدُّ الوقف سمة من السمات الأساسية في اللغات الحية، وهو إحدى الكليات اللسانية، وقد اكتسب في شتى الألسن وظيفته التمييزية، وله أثره وتأثيره في الرسالة اللغوية بوصفها تنتمي إلى الحدث اللساني المشتمل على: المرسل، والرسالة، والمتلقي، ولذلك كان من الواجب التزام الحدث اللساني لهذا العنصر الأدائي الذي لا يقتصر أثره على شكل الأداء من ناحية التقييم والإيقاع والصوت، إنما يتعدى إلى أثر جمالي ودلالي وإيحائي، ويعمل على خدمة الحدث اللساني في إيجازٍ شديد، يحمل من الدلالات والمفاهيم المتوخاة قدرًا كبيرًا دون الحاجة إلى التلفظ بالأصوات اللغوية (حروفًا أو كلماتٍ) بل يكتفي بالتوقف عن التلفظ، مشوب أن يكون في مواضعه، وعن وعي ودراية، وهو ما يجعل الوقف مرتبطًا ببنية العبارة من الناحية النحوية، ويحدث له أثرا دلاليًا وجماليًا، وما يجعله عنصرًا من عناصر النص، إن كان النص شفويًا فبالأداء الشفوي، وفي النص الكتابي من خلال تمثيله في علامات تشير إليه وإلى مواضعه (العوني عبد الستار بن محمد ، ص293 ) . وللوقف وظيفتان إحداها في اللفظ والأخرى في المعنى، وكلاهما يرتبط بالآخر ارتباطًا وثيقًا؛ فيوجد معه، أو يذهب بذهابه؛ فلا يمكن وجود معنى ولا مبنى له، كما أنه لا فائدة لمبنى ولا معنى أو قيمة له. كما أنَّ معرفة هذه الوظيفة للوقف في كليهما (أي اللفظ والمعنى) تعين على إدراك النص وفهمه، وتبرز وجوه مراميه، كما تعين على إقامة المبنى إقامة صحيحة متماسكة (حبلّص، ص182-183 ) . ولقد أشار د. حنون إلى وظيفتين أساسيتين مختلفتين للوقف؛ مشيرًا في كليهما إلى أنَّ الوقف ظاهرة تطريزيّة منظّمة للكلام؛ ((إمّا إلى وحدات إخبارية وقوليّة أو نحوية عند الوقوف على الجمل أو أجزائها تامة المعنى أو ذات تعلّق لفظي ومعنوي أدنى، وإمَّا إلى وحدات إيقاعيّة عند تناسب الكلام وتشاكل الحروف الموقوف عليها أو تماثلها أو تقاربها)) ، ليس هذه فحسب، بل أبان أنَّ الوقف – في كلتا الحالتين- هو المسؤول عن رفع أي لبس يقع بين التراكيب؛ ليقوم بتعديل العلاقات بينها، وتحسينها وتجويدها؛ فيبنيها من جديد، ويرفع من جودتها التركيبية؛ فأصبح وكأنَّه مصفاة (صواتية) تطريزية تراقب منتج التركيب وتقوم بضبطه ( حنون ـص119- 231 ). بيد أننا – وأمام هذا التقسيم- نضيفُ وظيفة ثالثة على ما أتى به حنون وهو: ماذا لو كان الوقوف على الجمل ناقصة المعنى (أي ذات تعلّق لفظي ومعنوي أعلى)؛ وماذا لو لم تتشاكل في حروفها الموقوف عليها؟ فما أحسبها إلا أنها وحدات نحوية وإيقاعيّة؛ فأمَّا نحويّة ففي تعلّق ما بعدها بما قبلها، ولعلّ هذا هو جزء هام في دراستنا، وأمَّا إيقاعيّة فقد خالف اللحن والإيقاع لاعتبارات عدّة، منها ما قاله القرطاجني من السجع والمرسل في فصيح كلام العرب، ومنه ما قدّمنا ملخّصه في بحث د. بريك في (الفاصلة المنفردة) ؛ إذن فهي -حتمًا- ظاهرة تطريزيّة منظّمة للكلام لوحدات نحويّة وإيقاعيّة. ويتعلق الوقف بالنحو أيضا- كما أجملنا في حديث د. حنون عن الوقف- فـ((القراءة الماهرة هي جزء من القواعد النحوية، فهما جزءان لا يتجزآن، فمعرفة الكلمات التي يتعين استخدامها تصاحبها معرفة الكلمات التي ينبغي توقعها أثناء القراءة)) (سيدريك تولينجفورد، ص 275 ) ، فالفصل والوصل ومواضع النبر والتنغيم ونحوها تتعلق بالأداء وبالقراءة وبالوقف وبالنحو. فضلًا عن ارتباط الوقف بالتنغيم والأداء والدلالة، إذ قد يبنى الكلام على الوقف، ولقد أشار د. أحمد مختار عمر إلى بعض آثار الوقف نحويًّا خلال استقرائه بعض النصوص القرآنية، كالتالي:
الخاتمة: لقد رأينا كيف أنَّ علم الفاصلة القرآنية عُدَّ من العلوم الناشئة مع ظهور العلوم الإسلامية والعربيّة؛ حيث مرَّ بعدة مراحل حتى نضج واكتمل وأصبح علمًا قائمًا بذاته؛ له قواعده وأصوله. وقد اجتهد القدماء والحديثون في تحديد مفهوم الفاصلة القرآنية وحدّها؛ فاتفق غالبهم على أنَّها مقطعٌ صوتيّ متكرر في أواخر رؤوس الآي، وهي بذلك تشبه القافية في الشعر والسجعة في النثر؛ ممَّا يضفي على القرآن الكريم طابعًا إيقاعيًّا تطريزيًّا بديعًا، يُعزِّزُ من جمال التلاوة والتأثير السمعيّ للنصّ القرآنيّ. ولقد تعدَّدتْ تصنيفات العلماء للفاصلة القرآنية، وتحديد أنماطها وفقَ معايير متعددة؛ فبعضهم ركَّز على حرف الرويّ وتمييزه بين الالتزام والتحرّر، وآخرون نظروا إليه باعتبار وزنه؛ فتفاوتوا بين اعتباره عنصرًا أساسيًّا يلتزم به، أو عدم الالتزام به. وبينما وضع فريقٌ بالاعتبار القرينة بين الفواصل ومدى تساويها أو اختلافها، ركَّزَ آخرون على طول الفقرة وقصرها، أو مقدار الفاصلة من الآية، ومدى اكتمالها أو نقصانها. ومنهم من اهتمَّ بدراسة تكرار الفاصلة وفقًا للحركة أو الحرف، أو تصنيفها إلى مسجوعة أو مرسلة (كفصاحة العرب وبلاغتهم في حديثهم). وآخرون اعتبروها قياسية تبعًا لحروف القافية، أو وظيفية بحسب دورها في الآية. هذه الاجتهادات عكست مدى تنوع الدراسات حول الفاصلة القرآنية، وأهميتها في البناء الإيقاعي والدلالي لآي الذكر الحكيم. أمَّا فيما يخصُّ الوقف في القرآن الكريم، فرغم تعدّد مسمياته، فقد وردَ لغويًّا في المعجم بمعنى الكفّ. وعرَّفه العلماء صوتيًّا بأنَّه قطع النطق عمَّا بعده؛ وهذا يتفق مع تعريف القرَّاء للصوت بأنَّه قطع الصوت عند آخر الكلمة بنفسٍ ونيَّة استئناف التلاوة. ومن هنا يتبيّنُ أنَّ الوقف في التلاوة ليس مجرد انقطاع صوتيّ، بل هو فنٌّ له دلالاته التي تؤثر في المعنى، والتجويد، والإيقاع القرآني.
نتائج الدراسة: لقد خلص البحث إلى جملة من النتائج، هي:
_______________________________________ ( 1) وإنَّما كان ذلك بتوصية من الدكتور محروس بريّك، (أفاد الله بعلمه).
_______________________________ (1)هو مصطلحٌ أخذته بنصّه من الدكتور محروس بريّك، في محاضرة جامعية لأحد مقررات الدراسات العليا في جامعة قطر
التوصيات والمقترحات: ومن أهم التوصيات والمقترحات التي يمكن أن يُختم بها البحث ما يأتي:
| |||||||||||||||||||||
References | |||||||||||||||||||||
| |||||||||||||||||||||
Statistics Article View: 250 PDF Download: 72 |