العقل والوحي والآخر الديني من منظور إسلامي | ||||
Transcultural Journal of Humanities and Social Sciences | ||||
Article 9, Volume 1, Issue 3, March 2021, Page 148-157 PDF (664.52 K) | ||||
Document Type: Original Article | ||||
DOI: 10.21608/tjhss.2021.160346 | ||||
View on SCiNiTO | ||||
Author | ||||
د./ وائل فاروق* | ||||
Associate Professor of Arabic Language and Culture Faculty of Linguistic Sciences and Foreign Literatures The Catholic University of the Sacred Heart in Milan (Italy). | ||||
Abstract | ||||
This research examines the recurrent metaphors in intercultural dialogue, in order to verify their contribution to a constructive dialogue. Terms such as pluralism, integration and difference may end up conveying opposite meanings to what they are intended, so that the will of not excluding the “different” might lead to the exclusion of the difference itself, or the attempt to avoid a clash between stereotypes might end in a dialogue between them, which is even more dangerous. The first section will discuss the concept of dialogue and the role of difference in modern times. The second section will be devoted to the concepts of revelation and reason in Islamic tradition. The third section will investigate the “religious other” from an Islamic perspective. The fourth section will discuss difference as a natural right. In the fifth and last section conclusions will be drawn on the self and the other, based on the considerations of the previous sections. | ||||
Keywords | ||||
Intercultural dialogue; Islamic heritage; religious pluralism | ||||
Full Text | ||||
مقدمة: الحوار والاختلاف بين الإقصاء والتماهي في خطابه أمام برلمان برلين في سبتمبر 2011 استخدم بندکتوس السادس عشر استعارة بليغة عن العقل الوضعي، کما سماه أو العقل العمليّ العلميّ کما نفهم من الخطاب، شبه فيها هذا العقل ببناء أسمنتي بلا نوافذ اسْتُبْدِلت فيه مقومات الحياة "الطبيعية" کالنور والهواء بأخرى "اصطناعية"، فاکتفى هذا العقل بذاته واستغنى عن غيره، لا شک أن عقلا بهذا الانغلاق لا يمکن إلا أن يخلق في عزلته عالما على صورته، فالعالم الذي جعلته التکنولوجيا قرية صغيرة تحول فيه الأفراد والمجتمعات إلى مبانٍ أسمنتية بلا نوافذ، هو عالم يزداد فيه الشعور بالوحدة وتقل فيه الرغبة، ويتراجع فيه الفضول، ويسيطر عليه الخوف من الآخر ويدفع فيه "المصطنعُ" في کل مجالات الحياة "الطبيعيَّ" إلى الهامش فتتسع أکثر فأکثر الفجوة بين الإنسان والإنسانية. يسيطر "الإقصاء" على عالمنا المعاصر وتتعدد فيه أشکاله، في المجتمعات التي تسيطر عليها الأيديولوجيا، أو بتعبير أدق، المجتمعات التي تحول فيها الدين إلى أيديولوجيا، يکون الإقصاء عنيفا وأحيانا دمويا للمختلف (الآخر)، أما في المجتمعات التي تتمتع بإدارة ديموقراطية علمانية حيث " يجب على الدين والأخلاق أن ينحصرا في النطاق الشخصي" فإن هناک اعتقاد سائد أن التعايش السلمي فيها بين المنتمين لأديان وتقاليد وثقافات مختلفة لا ينجح دون استبعاد التجربة الدينية والأخلاقية من الفضاء العام للمجتمع، وهو ما يعني إقصاء الاختلاف، فإذا کانت التجربة الدينية أهم مکونات الهوية، فإن هذا الإقصاء للاختلاف هو في حقيقته إقصاء (للذات). الحوار الحقيقي، حوار لا يهدف إلى الاتفاق أو الاختلاف أو التفاهم أو التعايش، فالحوار الحقيقي هو حوار يهدف إلى إدراک أعمق للذات في علاقتها بالآخر في واقع ليس إلا محصلة لقاء مستمر مع الله - حسب التقليد الإسلامي أيضا نحن نلتقي في الله ونحب في الله - وهي صيغة توازن بعبقرية بين الثابت والمتغير في الحياة الإنسانية، فالله هو نفسه لا يتغير ولکن کل لقاء معه حادثة فريدة، خلق جديد، وحياة متجددة. الحوار الحقيقي هو دعوة لتعددية فاعلة تضمن تفاعل شرکائها وتضمن مساهمتهم جميعا في بناء الخير الإنساني العام وهي بهذا تغاير ما يمکن دعوته بـ "التعددية السلبية" التي ترى أنه في سبيل الحوار والتعايش المشترک "لابد من تجاوز الاختلافات والفروق التي تميز ثقافة عن الأخرى"[1]، فالتعددية الفاعلة لا تفرض تنازلات على شرکائها لأنها تدرک أن ما يميز ثقافة عن أخرى هو بالضبط ما تضيفه ثقافة لثقافات أخرى . يمکنني المغامرة بالقول إن کثير من القوانين في تقديمها لـ "معايير الأغلبية على معايير العدالة" تکرس هذه التعددية السلبية التي تقصي الاختلاف کما نجد في فرنسا وهي واحدة من أعرق الديموقراطيات الغربية وأغناها تاريخا في الدفاع عن الحقوق والحريات حيث صدر قانون يجرم ظهور الرموز الدينية في الفضاء العام. في سويسرا کذلک رعت الدولة استفتاء تقرر فيه "الأغلبية" الشکل المعماري لمساجد المسلمين لتقدم لنا نموذجا صارخا على تقنين إقصاء المختلف، فلا أعرف وفق أي فقه دستوري يتم تشريع قوانين لفئة بعينها في المجتمع؟. تمتد الممارسات الإقصائية إلى کل مجالات الحياة – دون قصد أحيانا – وتظل الحدود والفواصل عميقة بين "فرقاء" الوطن الواحد. شرح لنا أستاذ يهودي في السوربون کيف تحول الاحتفاء الشديد بـ “ السوسيس" بوصفه أکلة وطنية فرنسية إلى مظهر من مظاهر التمييز ضد اليهود والمسلمين الذين لا يأکلون لحم الخنزير حيث أصبحوا بين خيارين: عدم حضور المآدب العامة أو حضورها وادعاء أنهم نباتيون حتى لا يقال: أنظر يا عزيزي کيف يدعون أنهم فرنسيون وهم لا يأکلون "السوسيس"! في مجتمعات أخرى تتمتع مظاهر التدين بحماية أکثر طالما لم يتجاوز حضورها في الفضاء العام ممارسة الشعائر الدينية الخاصة بها، وهنا أيضا يتم اختزال الدين إلى مجرد طقوس مفرغة من أي مغزى اجتماعي، وهو ما يتجلى في الانقسام العميق داخل المجتمعات عندما تواجه على المستوى العملي بأسئلة الموت والحياة في قضايا مثل الإجهاض والقتل الرحيم والتبرع بالأعضاء حيث يتجلى بوضوح عجز العقل العلمي عن إصدار حکم أخلاقي؛ کما يتجلى أيضا افتقاد المجتمع لخبرة التعددية الإيجابية التي يمکن أن توفر على الأقل لغة مشترکة لمناقشة مثل هذه القضايا ليلجأ المجتمع مرة أخرى لمعايير " الأغلبية" حيث لا سبيل للاتفاق - ويا للعجب - على معايير "للعدالة". إننا في حاجة إلى عقل لا يقصي الإيمان، وإيمان لا يقصي الآخر، وقانون لا يقصي الطبيعة الإنسانية. والسؤال الذي تحاول أن تجيب عليه هذه الورقة هل يمکن أن تتبنى التقاليد الإسلامية تلک العقلانية والتعددية المأمولة التي تنسجم مع الطبيعة ولا تختزل الذات الإنسانية إلى أحد مکوناتها؟
الوحي والعقل والطبيعة في التقليد الإسلامي الترجمة الشائعة لکلمة شريعة هي القانون الإسلامي، وهي بلا شک ترجمة للواقع الإسلامي أکثر منها ترجمة للکلمة العربية التي تعني الطريق إلى الماء في الصحراء، وتتميز هذه الطريق بأنها تشکلت من "طرق" الأقدام للأرض في مسيرها باتجاه الماء، مصدر الحياة في الصحراء، الشريعة بهذا المعنى طريق للحياة شارکنا ونشارک نحن – الإنسانية – بکل خطوة نخطوها فيها في رسمها وتعبيدها، هي ليست خطا مرسوما ومفروضا علينا من أعلى، إنها اختيارنا وفعلنا . ورد لفظ الشريعة في القرآن مرة واحدة " ثم جعلناک على شريعة من الأمر فاتبعها" (44 : 18)، کما وردت صيغة الفعل منه مرتين " شرع لکم من الدين .." (43 :13) و"أم لهم شرکاء شرعوا لهم من الدين .." (43: 21) ووردت مشتقة أيضا مرتين " لکل جعلنا شرعة ومنهاجا .." (5 : 48) و" إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا .." (7: 163). الشريعة في السياق القرآني إذن هي نفس الاستعارة اللغوية البليغة التي تجعل من الدين طريقا إلهيا للحياة الأبدية تشکله مسيرة أصحاب الإرادة الحرة الذين اختاروا السير فيه، بهذا المعنى ليست الشريعة قانونا إلهيا يطبق حرفيا – آيات المعاملات التي تم اختزال الشريعة إليها في الفهم الضيق للإسلام السياسي هي فقط 80 آية من 6000 آية يضمها النص القرآني – الشريعة فضاء للقاء بين الإرادة الإلهية والفعل الإنساني، فالشريعة بمعناها الأکثر شمولا والأکثر عمقا، هي قانون شامل للخلق، والخلق لا يشمل فقط الکواکب والحيوانات والنباتات وغيرها، وإنما يمتد إلى العلاقات والروابط التي تحکم تواصل هذه الأشياء ببعضها وتطورها، فهي أيضا جزء من الخلق وجزء من الإرادة الإلهية. إنها قوانين الطبيعة التي يعمل من خلالها الکون، إنها قوانين الکيمياء والفيزياء التي لا يملک الخلق إلا الخضوع لها وطاعتها، فالخلق خاضع أي "مسلم". بهذا المعنى کل إنسان هو "مسلم" لأنه خاضع في وظائفه البيولوجية للطبيعة وقوانينها، ولکن الإنسان يتميز عن بقية الخلق بأن لديه خيار في بعض المناطق المحدودة: أن يطيع ويقبل إرادة الله أو يرفضها، فالشريعة هي إرادة الله للبشرية التي يحققها الفعل الإنساني . ولکن کيف تتعرف البشرية على إرادة الله ؟ يحدثنا القرآن عن (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم 30 ) والتي وضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها، فإن جميع أحکام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق کلهم، الميلَ إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق. کذلک يحدثنا القرآن عن آدم (وإذ أخذ ربک من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربکم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا کنا عن هذا غافلين) (172 :7) ففي نفس الوقت الذي خلق الله فيه آدم، کشف له إرادته. هکذا أصبح آدم أول رسول من الله، وهکذا امتلکت الإنسانية منذ بدايتها المعرفة التي تحتاجها لتعيش وفق مشيئة الله، کما امتلکت الأداة التي ترشدها إذا ضلت أو نسيت ما أودع الله في قلوب أبنائها، هکذا لا يکون الإنسان مسلما مکلفا إلا إذا کان عاقلا، فالعقل هو الضامن لاستمرار المعرفة، والضامن لاستمرار اللقاء بين إرادة الله وفعل الإنسان. جاءت مادة (ع.ق.ل) في القرآن الکريم 49 (تسعا وأربعين مرة) کلها – إلا واحدة- جاءت بصيغة الفعل المضارع، وخصوصا ما اتصل به واو الجماعة : "تعقلون" ، و"يعقلون" . ففعل "تعقلون" تکرر 24 مرة، وفعل "يعقلون" تکرر 22 مرة، وفعل "عقل" ، و"نعقل"، و"يعقل" جاء کل منها مرة واحدة. وقد جاءت في کل الآيات في سياق الدعوة إلى إعمال العقل لفهم الطبيعة والإنسان وصولا إلى الله سبحانه وتعالى مثل : " إن شر الدواب عند الله الصم البکم الذين لا يعقلون" (الأنفال 22)، و"أفلم يسيروا في الأرض فتکون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار ولکن تعمى القلوب التي في الصدور" (الحج 46) . لم يأت العقل في صيغة الاسم في القرآن لأنه ليس مفهوما أو ماهية أو کينونة مکتملة وثابتة إنه صيرورة ومسيرة، فعل وممارسة "هنا" ، وهو فعل مضارع لأن ما يعنينا هو تحققه "الآن" وليس في الماضي أو المستقبل، وهو في صيغة الجمع لأنه لغتنا المشترکة عنصر الوحدة الذي يضمن التعدد ويحميه. العقل في السياق القرآني هو جسر التواصل بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والله، بين الأنا والآخر، لذلک کل مرة جاء فيها فعل العقل منفيا جاءت معه استعارة تدل على انقطاع التواصل، (الصم ،البکم، العمي) يقول تعالى : " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" ( سورة محمد 24 ). الفعل "يتدبر" مرادف "يتعقل" الذي بدونه يکون القلب ( وهو محل الروح ) سجينا، بدون العقل لا يکون الإنسان حرا يکون أسيرا للأحکام المسبقة والصور النمطية والتقاليد الجامدة التي تحرمه من الحياة التي هي لقاء مع الله ومع مخلوقاته ومع الآخرين. العقل إذن في السياق القرآني هو فعل تواصل مستمر مع الله والآخرين في "الآن" و"هنا"، العقل حرية، وخلق جديد کل يوم لأنه ممارسة وحياة تعاش في واقع يتجدد ويتغير کل يوم. الاعتقاد الإسلامي بأن الأصل أو الطبيعة أو " الفطرة" في الإنسان هو الخير والحق، وأن فعل الإنسان المستند إلى إرادته الحرة هو مصدر الشر عندما يخرج عن الطريق الإلهي، هذا الاعتقاد جعل المبدأ القانوني الحاکم للفقه الإسلامي هو " الأصل في الأشياء الإباحة" فالخير المتجذر في الإنسان المنسجم مع طبيعته هو مصدر القانون، ولعل هذا هو ما أعطى الحجة لرجال القانون في القرن الماضي الذين رفضوا القرار "السياسي" بتقنين الشريعة، فالقانون المدني لا يصدر عن الشريعة ولا يتصادم معها، ولکنه يظل متفقا مع مقاصدها وهو تحقيق العدالة، تجسد هذا تقنيا في الفقه الإسلامي في مصدرين من مصادر التشريع الإسلامي هما المصالح المرسلة والعرف، وبالرغم من أنهما مصدران هامشيان بجانب القرآن والسنة والقياس وإجماع الصحابة، فإن غالبية القوانين يتم تشريعهما على أساسهما، لأن الشريعة کما يقول ابن القيم "مبناها وأساسها على مصالح العباد في المعاش والمعاد (يوم القيامة). وهي عدل کلها ورحمة کلها ومصالح کلها. فکل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحکمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل..." الآخر الديني في التراث الإسلامي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي کمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"[2] يقدم النبي نفسه في هذا الحديث بوصفه "تواصلا" لتاريخ طويل من العلاقة بين السماء والأرض، بين المقدس والإنساني، إنه حالة اتصال جديدة تکتمل بها هذه العلاقة أو ينتقل بها بناء النبوات من النقص إلى الکمال، ولکن اکتمال وکمال التواصل لا يعني إلا انقطاع تجلياته، لذلک فالنبي في هذا الحديث يقدم نفسه أيضا بوصفه "انقطاعا"، فهو الخاتم، هو النهاية، ولکنها نهاية تعلن عن بداية جديدة، بداية لتاريخ جديد من العلاقة بين المقدس والإنساني حيث تکون العلاقة غير مؤقتة وغير محدودة بنبي ينقل رسالة السماء، علاقة يحل فيها "عقل الجماعة المؤمنة" محل النبي وهذا لم يکن من الممکن أن يحدث دون اکتمال الرسالات/الرسل بالنبي الخاتم. لا تشير أطراف الثنائيات السابقة – تواصل/انقطاع، نقص/کمال، بداية/نهاية - في هذا السياق إلى الصدام والتضاد وإنما إلى الاختلاف والمغايرة التي تمثل المبدأ الحاکم لعلاقة الإسلام بالأديان السماوية السابقة عليه، بل ويمکنني الادعاء أن صدام الإسلام مع الوثنيين لم يکن في جوهره صداما عقائديا، فـ "الدين" لم يکن محور الجدل مع المشرکين الذين لم يظهروا رفضا کاملا لعقيدة التوحيد الإسلامية وهو ما يقرره القرآن نفسه في کثير من آياته "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله"[3] فهم لم يعبدوا الأصنام إلا تقربا لله "ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى"[4] ولم يکن يمنعهم من دخول الإسلام إلا تمسکهم بميراث آبائهم "قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا"[5] لم يکن صراع الإسلام إذن صراعا دينيا عقائديا بقدر ما کان صراعا مع الثقافة التي حفظت للنظام القبلي تماسکه ولکنها في الوقت نفسه وضعته خارج العالم، وجعلت من عزلته في المکان (الصحراء) وعزلته في الزمان (الماضي) المکوِّن الرئيس لهوية الفرد والمجتمع. لقد تبنى الإسلام الکثير من العقائد والعبادات والقيم الأخلاقية السابقة عليه، فعلى العکس مما استقرت عليه کتب التاريخ الإسلامي التراثية والمعاصرة[6] لم يکن المجتمع الذي ظهر فيه الإسلام مجتمعا لا أخلاقيا محروما من الفضائل، وأهله "لم يکونوا جهالا ولا أغبياء ولا غلاظا ولا أصحاب حياة خشنة جافية وإنما کانوا أصحاب علم وذکاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة"[7] يقول الرسول في حديث آخر: “إنما بعثت لأتمم مکارم الأخلاق “[8] فالسعي إلى کمال الدين وتمام الأخلاق لا ينفي وجودهما، وقد کانت هذه حالة المجتمع الإسلامي تحت قيادة الرسول إلى أن نزلت أحد أخريات آيات القرآن في "حجة الوداع" التي تقول:" اليوم أکملت لکم دينکم وأتممت عليکم نعمتي ورضيت لکم الإسلام دينا "[9] والتي انخرط عمر بن الخطاب في البکاء عند سماعها وعندما سئل عن بکائه قال: "ما بعد الکمال إلا النقصان" مشيرا إلى أن اکتمال الدين يعني غياب الرسول[10]، النقص هنا لا يحمل إدانة أخلاقية، فالإسلام لم يرد إلا الانتقال من مجتمع يکرس "النقص" إلى مجتمع يسعى إلى الکمال، فالحياة ليست إلا جسرا يعبره الإنسان من نقصه الإنساني إلى الکمال الإلهي. ينظر الإسلام إلى الأديان المختلفة على أنها أعضاء في جسد واحد، وما کان بناء النبوات ليکتمل بالنبي محمد إذا غاب أي من هذه الديانات، لقد استمرت هذه الفکرة في التقليد الإسلامي بصور مختلفة، فنجد إخوان الصفا في القرن الرابع الهجري يصيغون نفس الفکرة في استعارة أخرى شبهوا فيها الإنسانية برجل تصيبه الأمراض المختلفة فيصف له طبيبه – الله – أدوية - أديان - تختلف باختلاف الأمراض، ويظل غياب أي منها تهديدا لحياة الإنسانية، الآخر کما يقدمه التقليد الإسلامي هو شريک يضمن حضوره الکمال الإنساني ويهدد غيابه الحضارة الإنسانية. ليس غريبا إذن ما يقرره محمد عابد الجابري من أن مفهوم "الآخر" مفهوم أجنبي عن اللغة العربية، واللفظ العربي القريب من هذا المفهوم هو "الغير" ومنه الغيرية التي تعني مجرد "الاختلاف"، وبالتالي فهي ليست ضرورية للوعي بالذات، کما نرى في الفکر الأوربي . إنها في العربية تقع على مستوى الصفات فحسب، ولا ترقى إلى مستوى الجوهر کما في اللغات الأوربية، والغالب ما يستعمل لفظ "الآخر" في معنى الترتيب على مستوى التعداد، ولکن دونما أفضلية. ينطلق موقف القرآن من "غير المسلمين" -في البداية على الأقل- من الاعتراف بهم، لا بوصفهم "الآخر" بالمعنى الأوربي للکلمة، بل کـ "آخرين" معترف بهم، کأهل دين، وهم جميعا، بما في ذلک "الأنا"/الإسلام، متساوون أمام الله. يقول تعالى: "إن الذين آمنوا (المسلمون)، والذين هادوا (اليهود)، والنصارى، والصابئين (المجوس)، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (2- 62).
الاختلاف کحق طبيعي مادة "خلف" من أغنى مواد المعجم العربي من حيث الاشتقاق و الدلالة وهي مادة يجتمع لها الإيجابي والسلبي من الدلالات مثل : الفساد والحمق والإعراض والتضاد والإمارة والإثمار والاستسقاء .. ، و على الرغم من تعدد الصيغ و الدلالات إلا أن بعض المعاجم أغفلت صيغة اختلف، والبعض الآخر أورده في سياق شرح الخِلْفَة " القوم خلفة، أي مختلفون، والخلفة اختلاف الليل والنهار"؛ أما ابن منظور فإنه يقدم للصيغة "اختلف" أکثر من معنى ، فهي عدم الاتفاق أو عدم التطابق وقد جاءت من" اختلقته أي جعلته خلفي"[11] . لعل ما يمکننا أن نستنتجه من استقصاء دلالة الاختلاف في السياق المعجمي هو أن الاختلاف ليس سببا أو نتيجة للصراع والتنازع ، وأن عدم التطابق إنما يعني التنوع والتميز الذي هو أساس الهوية الفردية والتنوع والتعددية، فالله لم يخلق الناس متساويين – بمعنى متطابقين – فأولئک الذين يتحاشون إظهار اختلافهم في الحوار مع الآخر و مثلهم الذين يتخذون من اختلافهم ذريعة لشن الحرب على الآخر لا يفقهون الحکمة الإلهية التي جعلت من الاختلاف سنة من سنن الله المطردة في مخلوقاته، فالذي يدقق النظر في الکون ـ الذي نعيش في جزء صغير منه ـ يجد أن الله ـ تعالى ـ قد خلقه مختلف الأنواع والصور. لقوله ـ تعالى ـ : (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه کذلک...) (35-27/28 ) فهاتان الآيتان تؤکدان بما لا يدع مجالا للشک، أن الاختلاف سنة مطردة من سنن الله في خلقه وملکوته، حتى إنه ليعز أن تجد في خلق الله شبيهين يتطابقان في کل وصف وکل هيئة وکل حال. بل الشيء الواحد والنوع الواحد ـ کتکوين خلقي متميز ـ جعله الله سبحانه ـ متباينا أو مزدوجا وجعل ذلک آية من آياته للتفکر والتدبر، قال تعالى: (ومن کل شيء خلقنا زوجين لعلکم تذکرون).(51-49 ) ولکن هذا الاختلاف الذي نبه عليه القرآن ليس اختلاف تضارب وتناقض، بل هو اختلاف تنوع، ولهذا تکررت في القرآن کلمة "مختلف ألوانه" في أکثر من سورة وأکثر من مناسبة. بل نجد القرآن الکريم ينفي بعبارة صريحة ما ينبئ عن التضارب أو التعارض في الکون وذلک في قوله ـ تعالى ـ : (.... ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.....) (67-3)، ومما يؤکد أن هذا الاختلاف ـ في الإنسان والکون والحياة ـ اختلاف تنوع لا اختلاف تضارب وتضاد ما يلي: أولا : قول الله ـ تعالى ـ (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتکم وألوانکم إن في ذلک لآيات للعالمين) (30-22) يقول ابن کثير في تفسير هذه الآية : " يقول تعالى (من آياته) الدالة على قدرته العظيمة (خلق السموات والأرض) أي خلق السموات في ارتفاعها واتساعها وسقوف أجرامها وزهارة کواکبها ونجومها الثوابت والسيارات، وخلق الأرض في انخفاضها وکثافتها وما فيها من جبال، وأودية وبحار وقفار، وحيوان وأشجار. وقوله تعالى:(واختلاف ألسنتکم) يعني اللغات، فهؤلاء بلغة العرب، وهؤلاء روم إفرنج، وهؤلاء بربر، وهؤلاء حبشة، وهؤلاء هنود، وهؤلاء عجم إلى غير ذلک مما لا يعلمه إلا الله من اختلاف لغات بني آدم، واختلاف ألوانهم، فجميع أهل الدنيا منذ خلق الله أدم إلى قيام الساعة کلُ له عينان، وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان، وليس يشبه واحد منهم الآخر بل الأبدان مفارقة بشيء من السمت، أو الهيئة ظاهرا کان أو خفيا يظهر عند التأمل کل وجه منهم أسلوب بذاته، وهيئة لا تشبه الأخرى، ولو توافق جماعة في صفة من جمال، أو قبح، لابد من فارق بين کل واحد منهم وبين الآخر، (إن في ذلک لآيات للعالمين)[12] . الاختلاف أمر فطري فطر الله الخلق عليه، ودليل من أدلة قدره الله البالغة ، وآية من آياته الباهرة وإن إعمار الکون وازدهار الوجود، وقيام الحياة، لا يتحقق أي منها لو أن البشر خلقوا سواسية في کل شيء، وکل ميسر لما خلق له، قال ـ تعالى ـ (ولو شاء ربک لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربک ولذلک خلقهم .....) (11- 118/119 )[13] فالاختلاف " حق طبيعي عام بمعنى أنه موجود في کل فرد باعتباره إنسانا إنه جانب من إنسانية الإنسان، ومن هنا يکون إهداره إهدار لإنسانية الإنسان، وهو حق طبيعي أبدي، بمعنى أنه قائم ما بقي الإنسان على ظهر الأرض ـ أي أنه سوف يظل قائما وباقيا إلى يوم الدين، يوم يحکم الله سبحانه وتعالى بين الناس فيما کانوا فيه يختلفون. وليس يخفى أن التعددية هي التعبير الصادق عن الاختلاف في الأفکار، وفي الآراء والمعتقدات، إنها الأخرى عامة وأبدية. والقرآن الکريم هو الذي يؤکد لنا هذه الحقائق حين يقول: "ولو شاء ربک لجعل الناس أمة واحد ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربک ولذلک خلقهم" (11 - 118) "وما کان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا کلمة سبقت من ربک لقضى بينهم فيما فيه يختلفون". (10 – 118/119) "ولو شاء ربک لجعلکم أمة واحدة، ولکن ليبلوکم فيما آتاکم، فاستبقوا الخيرات، إلى الله مرجعکم جميعا فينبئکم بما کنتم فيه مختلفون". (5 - 48) "إن ربک هو يفصل بينهم يوم القيام فيما کانوا فيه يختلفون."( 32-25) "وإن جادلوک فقل الله أعلم بما تعملون. الله يحکم بينکم يوم القيامة فيما کنتم فيه تختلفون" (22-68) وهکذا نرى أن حق الاختلاف في المفهوم الإسلامي هو حق طبيعي، وهو حق عام لکل الناس، وهو حق أبدي وقائم إلى يوم القيامة، يوم يفصل الله سبحانه وتعالى بين الناس فيما کانوا فيه يختلفون. "[14] و لا ينهى الله – جل وعلا – عن الاختلاف يقول محمد سعيد البوطي " و لقد بحثت في کتاب الله – عز و جل – عن آية تنهى عن الاختلاف - بمعناه المحدود کما تلاحظون – فما رأيت، و لکنه ينهى عن التفرق و النزاع أي ينهى عن النتائج السلبية للاختلاف فهو يقول مثلا:(واعتصموا بحبل الله جميعا و تفرقوا) (3-103) و کان بالوسع أن يقول: "و لا تختلفوا" وهو يقول: "و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحکم "(8-46)، و عندما نهى عن الاختلاف ، نهى عن اختلاف محدد کاختلاف بعض الأمم البائدة " ولا تکونوا کالذين تفرقوا واختلفوا" (3-105 ) ،أي لا تکن اختلافاتکم اختلافات تهارجية تؤدي بکم إلى صراع و هرج و مرج ،و لقد سمعنا جميعا و قرأنا قول الله - عز وجل – "و لا يزالون مختلفين " (11-118). "[15] تتجلى حکمة المولى – عز وجل – من سنة الاختلاف في الآية الکريمة " يأيها الناس إنا خلقناکم من ذکر و أنثى و جعلناکم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أکرمکم عند الله أتقاکم إن الله عليم خبير " (49-13)، تخاطب الآية الناس جميعا ، و قد جاءت " بعد النهي عن الغيبة و احتقار بعض الناس بعضا منبها على تساويهم في البشرية"[16]، فالاختلاف ليس معيارا للتفاضل بين الناس ، فالناس متساوون کأسنان المشط ،فقال : " (إنا خلقناکم من ذکر و أنثى) لأن الناس کلهم في ذلک شرع سواء). و هو ما يؤکد على ما ذهبنا إليه من أن الاختلاف يعني التميز ، و أن حکمة هذا الاختلاف هي المعرفة ، يقول تعالى " لتعارفوا" و قد قرأها ابن عباس و أبان عن عاصم " لتعرفوا". الاختلاف بهذا المعنى هو أساس المعرفة والحوار آلية من آليات تحصيلها وهکذا يتضح لنا أن إقصاء الاختلاف من أجل الحوار مع الآخر لا يقل ضلالا عن إقصاء الآخر بسبب الاختلاف . لا شر في الاختلاف بل الشر في رفضه وعدم قبوله ، فـ "عدم التسامح هو رفض الاختلاف ، وهو البحث بأيد مخضبة بالدماء عن التماثل ، ورفض أي شکل من أشکال الاستقلال والتنوع . إنه يرفض تبادل الآراء لأن التبادل يبدد الکراهية، ويستبعد التعايش لأن التعايش يعني قبول الاختلاف "[17] هذه المبادئ التراثية العظيمة لا يمکن البناء عليها في واقعنا الراهن دون الوعي الکامل بأن التاريخ الإنساني لم يعرف ثقافة أو حضارة استمرت في الحياة والعطاء منعزلة عن محيطها، فتاريخ الحضارات هو تاريخ التلاقح والتمازج بين ثقافاتها، وهذه المثاقفة ليست مجرد محاکاة وتقليد وإنما هي انتقاء واعي يستند إلى ذاکرة حضارية. فالتعددية الثقافية في فضاء المجتمع، والتي تمثل اليوم قيمة حاکمة في المجتمع المعاصر، تجد أساسها المتين في إدراک التعددية الثقافية في فضاء الذات، وهو ما لا يمکن أن يتحقق دون التعامل مع الأنا کآخر. الأنا کآخر التلاؤم مع التراث ومع الواقع مثَّل الغاية الأسمى لجهود کثير من المفکرين في إطار ثنائية الأصالة/ المعاصرة، هکذا يعرِّف محمد عابد الجابري التراث بأنه "الموتى الأحياء فينا" وقد أراد أن يقول إن کُلاًّ منا يحمل في داخله – شاء أم أَبَى – تراث أولئک الذين مضوا وحياتهم، فثمة امتداد واستمرار للحياة عبر الزمن والشروط المتغيرة التي تحکم حرکة الإنسان فيه:[18] إلا أن هذه الجملة على عکس ما أراد – لا يفوح منها إلا رائحة الموت، فهي تجعل التراث جُثثًا ميتة وتجعل منا قبورًا لها. ولکنها بذلک – وعلى الرغم من ذلک – تضع أيدينا على أزمة تناولنا للتراث وعلاقتنا به التي يؤطرها "الأسر"، فنحن إمَّا أن نکون أسرى للتراث أو يکون التراث أسيرًا لنا، فنحن على الرغم من أَنَّنا ننتمي للتراث لا نستطيع أن نقول: "نحن التراث". هذا السَّعي للتلاؤم مع "المُغَايِر" هو ما أدَّى بنا إلى انفصال الغايات عن الوسائل، والتربية عن التعليم والنظري عن العملي والأکاديمي عن المهني والثقافي عن الاقتصادي والاجتماعي عن التکنولوجي...إلخ. هذه المماهاة هي ما أدت بتراث العقلانية العربية إلى "أن يکون مجهولاً لدى الغالبية الساحقة في کل جيل في العصر الحديث".[19] يجب أن نُنْصِت للتراث وإلى ما يقوله التراث کآخر ولا نستطيع أن نتعامل مع التراث کآخر إذا ظل مُجَرَّدًا من جسده الإنساني، إذا ظل مجموعة من المقولات التي تتعالى على الزمن والشروط المتغيرة التي تحکم حرکة الإنسان فيه کما يقول الجابري. علينا إذن أن نجسد التراث فلا ندرس مثلاً الفقه العباسي منفصلاً عن حياة الناس التي سجلتها کتب کالأغاني فحتى لو کان ما في الکتب الأدبية – المنفية خارج عالم العلم – مصطنع ومخترع فإن فعل اختراعه وروايته واستقباله ثم تدوينه في الکتب هو دليل قويٌّ على الواقع الاجتماعي والفکري على الجسد الإنساني الذي تحرک فيه فقهاء هذا الزمان، يجب أن نعيد الوحدة للمعرفة، المعرفة التي تولدت عن "النظر" في الموضوعات الشريفة والمعرفة التي أَطَّرتْ وتولدت عن الحياة اليومية للناس في ذلک العصر. عندما يصبح التراث إنسانًا يکون حيًّا، فالتراث حيٌّ لأنه ليس مجردًا، التراث حي لأنه باق في جسده – القول/ الإنسان – يمارس حياته وهي أن يقول، علاقتنا بالتراث إذن يجب أن تکون علاقة حوار يتميَّز طرفاه عن بعضهما ويتمتع کل منهما باستقلاليته. هذه الرؤية للتراث هي السبيل نحو بناء عقل نقدي قادر على الإبداع وإنتاج المعرفة، فالتربية لا تعني أيضًا التقليد والمحاکاة وإعادة الإنتاج، فکلمة "تربية" في اللغة العربية جاءت من الجذر (ر. ب. و) الذي يعني الزيادة والنمو،[20] فعملية التربية ليست مجرد عملية انتقال للقيم والأفکار والمعتقدات من جيل إلى آخر، التربية الحقيقية هي عملية إضافة وتنمية للقيم من خلال شحنها برصيد إنساني جديد وذلک بممارستها في حياتنا اليومية، فتصبح موضوعا للتأمل والتفاعل، فالحفاظ على القيم والتقاليد بهذا المعنى لا يعني تجميدها، وإنما نموها واکتسابها صيغا جديدة تعبر عن الواقع الجديد. هکذا تکون العلاقة مع الماضي علاقة مثمرة، فلا يجب تقديم الماضي إلا من خلال تجربة حية وواقع معاش، وهو ما يجعل التناول النقدي للماضي ممکنا، فالنقد المثمر البناء لا يفصل بين المعرفة النظرية المجردة والخبرة الإنسانية الواقعية، وهذا النوع من النقد هو وحده القادر على تجديد القيم والتقاليد والإضافة إليها. إن أخطر السلبيات التي تواجه العملية التربوية هي التقليد والاسترجاع وانعدام القدرة على الإبداع، فما هي التربية إن لم تکن عملية إثارة للفضول والتساؤل ودافع للبحث والمعرفة، وتنمية لقدرة الشخص على وعي وإدراک العالم واتخاذ موقف إيجابي من کل ما يحيط به، فالتربية ليست إلا بناء لقدرة الإنسان على الدخول في علاقات مثمرة مع ذاته ومع الآخرين ومع العالم. التقاليد لا "تحفظ" ، التقاليد "تُعاش" وأن تعيش التقاليد يعني أنک تقوم بإعادة انتاجها أو بإبداعها مرة أخرى ،فکما يقول جوته " ما ترثه من آبائک عليک أن تعيد کسبه کي تمتلکه". ليست التربية إذن "الحفاظ على التقاليد"، التربية "هي التفاعل مع التقاليد" الذي هو عملية تدريب على اکتشاف الهوية وبناء الشخصية، فالوعي النقدي بالذات والعالم هو ما يحمي التقاليد من أن تتحول إلى کليشية أو نموذج مفرَّغ من المعنى أو عائق أمام الجديد والمتغير في حياة الجيل الجديد ، فالتقاليد بهذا المعنى هي إضافة للجيل الجديد الذي يعيش من خلال ممارسة هذه القيم خبرات الأجيال السابقة عليه. إن الفاعلية المبدعة في العلاقة مع التقاليد والواقع والآخر هي ما يشکل الهويَّة الإنسانية وهي ما يوفِّر الانسجام المفقود بين "الآن" وتاريخه وبين "هنا" ومحيطها، لذلک فإن تنمية القدرة على الفعل والتفاعل يجب أن تکون الغاية الأسمى للعملية التربوية.فهي ليست إلا شعيرة يقوم فيها المجتمع بتجديد شبابه ليعيش ربيعا مستمرا، إنها عملية نمو تشبه نمو الشجرة التي لا ترتفع هامتها للسماء إلا إذا ضربت بجذورها في أعماق الأرض .
[1] کويشيرو ماتسورا المدير العام السابق لليونسکو في حوار لمجلة السياسة الدولية العدد 147 يناير 2002 ، ص 95 . [2] رواهالبخاري في المناقب (3535 ) ومسلم في الفضائل (2286 ) ومسند أحمد (2/312 ) [3] العنکبوت (61) [4]الزمر (3) [5] لقمان (21) [6]شوقي ضيف: العصر الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، د. ت، ط 11، ص 17 – 103. / حسين الحاج حسن: الأسطورة عند العرب في الجاهلية، بيروت، 1988، ص 20 – 22. / محمد على کرد علي: الإسلام والحضارة العربية، القاهرة، 1968، ص 120 – 131. [7] طه حسين: في الشعر الجاهلي، دار الکتب المصرية، القاهرة، 1926، ط 1، ص 20. [8]رواه البخاري في " الأدب المفرد "رقم ( 273 )،وابن سعد في "الطبقات"(1 / 192) والحاکم (2 / 613)، وأحمد ( 2 / 318 ) ورواه مالک في " الموطأ “ ( 2 / 904 / 8) [9]المائدة (3) [10]محمد الغزالي فقه السيرة القاهرة ط6، 1960 ، ص490 [11]ابن منظور، محمد بن مکرم: لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1999، ج 10، ص 188-193. الزمخشري، محمود بن عمر: أساس البلاغة، دار صادر، بيروت، 1992، ص 173. الجوهري، إسماعيل بن محمد: معجم الصحاح، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 313 . [12] ابن کثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، دار الجيل، بيروت ، ص 414. [13] البوطي، محمد سعيد رمضان، الإسلام وسنة الاختلاف، دار الفکر المعاصر، بيروت، 1995، ص 29 [14] البوطي، محمد سعيد رمضان، الإسلام وسنة الاختلاف، دار الفکر المعاصر، بيروت، 1995، ص 29 [15] البوطي، محمد سعيد رمضان، الإسلام وسنة الاختلاف، دار الفکر المعاصر، بيروت، 1995، ص 29. [16] ابن کثير، تفسير القرآن العظيم، ج4، ص 218. [17]إيدغار بيزاني، في مواجهة عدم التسامح، ترجمة أسعد حليم، مجلة رسالة لليونيسکو، يونيو 1992, ص 34. [18] محمد عابد الجابري: نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المرکز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1985، ط4، ص 113. [19] غالي شکري: ثقافة النظام العشوائي، تکفير العقل وعقل التکفير، کتاب الأهالي العدد (50)، القاهرة، 1994، ص 65. [20] انظر لسان العرب مادة ر.ب.و. | ||||
References | ||||
قائمة المصادر والمراجع القرآن الکريم
مسند الإمام أحمد بن حنبل، أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط ١، 1421 - 2001
صحيح البخاري، البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري أبو عبد الله، وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد السعودية، 1417 – 1997
محمد بن سعد بن منيع الزهري، الطبقات الکبرى، تحقيق علي محمد عمر، مکتبة الخانجي، القاهرة، 1421 – 2001
أبو عبد الله الحاکم محمد بن عبد الله النيسابوري، المستدرک على الصحيحين، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الکتب العلمية، بيروت، ط ١، 1411 - 1990
موطأ مالک، مالک بن أنس، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، 1406 – 1985
صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابورى، صحيح مسلم، تحقيق، نظر بن محمد الفاريابي، دار طيبة، 1427 - 2006
ابن کثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، دار الجيل، بيروت
ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1999
البوطي، محمد سعيد رمضان، الإسلام وسنة الاختلاف، دار الفکر المعاصر، بيروت، 1995
بيزاني، إيدغار، في مواجهة عدم التسامح، ترجمة أسعد حليم، مجلة رسالة لليونيسکو، يونيو 1992
الجابري، محمد عابد، نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المرکز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1985، ط4
الجوهري، إسماعيل بن محمد: معجم الصحاح، دار المعرفة، بيروت، 2007
حسن، حسين الحاج، الأسطورة عند العرب في الجاهلية، بيروت، 1988
حسين، طه، في الشعر الجاهلي، دار الکتب المصرية، القاهرة، 1926، ط 1
الزمخشري، محمود بن عمر، أساس البلاغة، دار صادر، بيروت، 1992
شکري، غالي، ثقافة النظام العشوائي، تکفير العقل وعقل التکفير، کتاب الأهالي العدد (50)، القاهرة، 1994
ضيف، شوقي، العصر الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، د. ت، ط 11
علي، محمد على کرد، الإسلام والحضارة العربية، القاهرة، 1968
الغزالي، محمد، فقه السيرة القاهرة ط6، 1960
ماتسورا، کويشيرو، المدير العام السابق لليونسکو في حوا | ||||
Statistics Article View: 623 PDF Download: 287 |
||||